"الأصل غلاب" هكذا بدأت أمي حديثها معي، بعدما جلست أتحدث معها لمدة تفوق الساعة بين حكايات الماضي ونظرة للمستقبل، مواقف عديدة تكون محور الحديث منها السيئ، ومنها ما مر بسلام، لكنها مع كل كلمة وحدث كان لهم تأثير علي، كانت تقول إن تعاملات الشخص لا يجب أن تكون نابعة من فعل الطرف الآخر، لكن من أصله، فالأصل الطيب هو من يحكم الموقف وليس العكس.
قبل ما أحكي ظروف القصة ينبغي أولاً تعريف مصطلح "الأصل"، فإننا نسمع هذه الكلمة كثيراً، وأغلب المواقف التي تقال فيها ما بين المقريبين مع بعضهم لدرجة، أو على المستوى الشخصي، يكون لديهم معرفة بقيمة وأصل الطرف الآخر في التعاملات، لذا يكون لديهم خلفية بأنه مهما انفعل أو كان يقع تحت ضغط من أي نوع سيتعامل بتربيته وأصله، فكثيراً ما تقال من صديق لصديقه، أو من أخ لأخيه، أو حتى من زوج أو زوجة لزوجها، وهذا يرجع لمعرفة كل فرد منهم لظروف حياة ونشأة الآخر التي تجعله ولو بشكل نسبي قادرا على إصدار حكم شخصي على طبيعة الآخر بناء على تربيته وأخلاقه.
فالأصل هنا هو الأخلاق والقيم والعُرف الذي نحتكم إليها في المشكلات الشخصية، وهو ناتج عن بيئتنا المحيطة والتربية القويمة من داخل المجتمع والأسرة، وكثيراً ما يرادف الأصل عمل الخير والتقدير، يتم القيام به بلا دافع سوى الخير للآخرين، والعكس صحيح.
تعاليم كثيرة نابعة في مجتمعنا المصري تحث على تقدير الأصول والتعامل بالتربية والاحترام، هكذا أوضحت أمي في جلستي معها أن ما يخيفنا من أي شخص ليس عصبيته أو انفعاله، بل أن المرعب من وجهة نظرها قلة الأصل.
فيقال عن قلة الأصل بأنها شعور بالنقص ينتج عنه افعال تؤذي الآخرين، حتى وإن كانوا من ذوي القربى، قد يحدث ذلك من الشخص "قليل الأصل" بلا أي سبب أو مصلحة سوى شعور بالسعادة ينتابه عندما يرى إخفاقات الآخرين، فإنها تحسسه بتفوقه وأفضليته بشعور داخلي كاذب، وتابعت أمي أن على كل شخص متابعة ردود فعل الطرف الآخر أثناء الخلاف أو سوء التفاهم، ويعلم منها مدى تربيته وأصله في اتخاذ موقف ما.
وكم لقينا من هؤلاء وهؤلاء، حتى أصبحنا نحكم على الشخص من داخله، ومن أفعاله وطباعه، فكما يقال في التراث بأنك تعرف صديقك في الخصومة إلا أنها جملة صادقة، ويصدق معها أيضاً مقولة "لا تأمننَ لرفقةِ أحدٍ؛ حتى تراهُ في ثلاث: شِدة تُصيبك ، ونعمة تصيبه ، وجفوة بينكم" كما قال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه.
وعلينا أن نحمد الله أننا تربينا في منزل قائم على فكرة الأصل في كافة مناحي الحياة، تلك التربية التي منحتنا "الأصل" والتي منحتنا أيضا القدرة على المواصلة والتعامل مع الآخرين بما تفرضه علينا تربيتنا وفق الأصول.
فلماذا يقال الطبع غلاب؟ الحقيقة أن أصدق تعريف لهذه الجملة هي "من شب على شىء شاب عليه"، بمعنى اوضح بأن من اعتاد العيش وفق عادات خاطئة حتى ولو كانت هي المنتشرة في محيط بيئته، ستصبح بالتالي الأصول الحقيقية من وجهة نظرة، وهي القواعد التي يتعامل مع الاخرين من خلالها، ولست في حالة تعميم على كل شخص نشأ في محيط غير سوي، بل على العكس، هناك اعداد لا حصر لها ممن يعيشون وسط بيئات ليست أشباههم، وتلك هي المشكلة الأساسية.
فما حل هذه المشكلة؟ حلها يكمن في الاعتياد على الفضائل، حتى وإن كانت في وسط مجتمع مرذول، والأحتفاظ بالأخلاق القومية حتى وان كثرت المفاسد، فالأحتماء بالضمير ومراجعة النفس والعقل قبل أي إجراء يتم إتخاذه ينبغي ان يكون من هذه المنطلقات، فهي السبيل الحقيقي والوحيد لأجراء تغيير جذري في النسيج المجتمعي، وهذا ما يجب ان يكون عليه المجتمع، بأن يكون صاحب أصل، ولكن بالمعنى الإيجابي.