بعد أن تحولت الحرب الروسية الأوكرانية إلى حرب متعددة الأطراف تتشارك فيها قوى المجتمع الدولى المختلفة، وتدخل الولايات المتحدة الأمريكية اللافت في المعادلة بشكل جعلها طرفا أصيلا في مجريات الصراع، قدمنا 3 مقالات منفصلة تكشف القوى المستهدفة من قبل الولايات المتحدة باعتبارها القوى المهيمنة على العالم وعلى مجريات تلك الحرب، وأردنا أن نجمعهم في مقال واحد، لتتكامل الرؤية ويتسق الهدف، حيث رأينا أن العصفور الأول المستهدف من قبل الولايات المتحدة هو روسيا بعد تصاعد نفوذها فى العالم، وبعد أن وجدت موطئ قدم لها في البحر المتوسط من خلال التدخل في سوريا وسيطرتها على مجريات الأمور في الصراع السورى، خلاف تصاعد نفوذ موسكو في أفريقيا والبحث على موطئ قدم في البحر الأحمر، وقبل ذلك كله السيطرة على جزيرة القرم رغم عن أنف الأمريكين، والتغلل الواضح والانصهار مع الأوروبين، خلاف أن الروس هم القوة العسكرية الثانية في العالم، ولدى الرئيس بوتين حلم استرداد امبراطورية السوفيت من جديد.
إضافة إلى التقارب الروسي والصينى، المزعج والمقلق للأمريكان، فلك أن تتخيل حجم هذه القلق عندما تتصور أن ثانى قوة عسكرية في العالم "روسيا" وثانى قوة اقتصادية في العالم "الصين" يتقاربان، ونجد تصاعدا للنفوذ الصينى في العالم بعد أن كانت
تنتهج بكين سياسة الصعود الصامت تتحول تلك السياسة إلى أمر مغاير وتدشن أول قاعدة عسكرية للصين خارج حدودها وفى منطقة القرن بدولة جيبوتى، وليست قاعدة عسكرية بهدف مواجهة القراصنة وحماية تجاراتهم الدولية فى البحار والميحطات إنما قاعدة أسست أن تستقبل حاملات طائرات، ونجد الروس أيضا لهم مساعٍ حثيثة لإنشاء قاعدة عسكرية في منطقة القرن الأفريقى.
أما العصفور الثانى المستهدف، هو "أوروبا نفسها"، وقد يسأل سائل، كيف هذا وأوروبا كتف بكتف مع الأمريكان، من خلال قرارات الدعم أو العقوبات أو الناتو أو بتوجيه كل أوجه الدعم العسكرى والاقتصادي للأوكرانيين، أقول لك نعم هذا قد حدث وما زال يحدث، لكن الأمور تتكشف للأوروبيين الآن، فقد بدأوا يدركون أنهم دخلوا حربا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأنهم مستهدفون أيضا، وأن الأمور بدأت تتكشف لهم أيضا بعدما رأى الاتحاد الأوروبي أحلامه في طريقها للانهيار بعد شبح توقف مشروعاته التنموية وانصهاره مع روسيا من خلال نورد استريك 1 ونورد استريم 2، وها هو نورد استريم 2 يتوقف تماما، ونورد استريم 1 مهدد هو أيضا، وبعد توقف حلم الاتحاد بأن يكون له قوة عسكرية خاصة به، وبعد هجرة الكثير من المصانع من أرضه بسبب أزمة الطاقة والاضطرابات الاقتصادية والسياسية إلى الصين وأفريقيا، بل رأت أوروبا بعينها كيف تستغل أمريكا الأزمة لصالح الولايات المتحدة دون غيرها، خاصة بعدما أصدرت عدة قوانين حمائية لحماية الصناعة الأمريكية، وبيع الغاز الأمريكي لهم بعشرات الأضعاف، وتوجيه الدعم للصناعات الأمريكية في خرق واضح لكافة الاتفاقيات الدولية وفى ظل صمت المنظمات الدولية تجاه ما تفعله ليعلم الجميع وعلى رأسهم أوروبا أن تلك المنظمات ما هي إلا أدوات تستخدمها الولايات المتحدة لتركيع العالم لاستمرار سيطرة النفوذ الأمريكي.
وأكدنا أنه ما يعزز هذا الطرح، أن بعض قادة أوروبا أنفسهم خاصة الرئيس الفرنسى ماكرون أكد وألمح أن الولايات المتحدة الأمريكية غير معنية إلا بالولايات المتحدة، ما جعلهم الآن ينتهجوا سياسة مشاكلنا أولا فذهبوا إلى ضرورة عقد اتفاقية الشراء الموحد الأوروبى، وذهبوا للصين باعتبارها أكبر شريك تجارى ومصدر لهم، وبدأت سياسة اللوم بينهم وبين الولايات المتحدة، فتارة أمريكا تلوم بتقاربهم مع الصين فيما هم يلومون أمريكا باستغلال الأزمة لصالحها، ورغم تكشّف الأمور لا يستطيعون التراجع عن الاصطفاف خلف أمريكا رغم معاناتهم التي تزداد يوما بعد الآخر، نتيجة دخول فصل الشتاء، وتصاعد وتيرة الغضب عند شعوبهم جراء موجة التضخم، فهم الآن كالذى أرد أن يسبح في نهر لكن توقفت قواه في المنتصف فلا هو قادر على العودة ولا قادر على استكمال ما بدأه، لذلك فإن أوروبا هي الخاسر الأكبر من تلك الحرب بعد أوكرانيا.
لنأتى أخيرا، أن العصفور الثالث هو الصين، وذكرنا أن أمريكا تعانى من انفصام الشخصية في تعاملها مع التهديد الصينى، حيث تنقسم إلى فريقين، الأول يرى أن الصين هى الخطر الجديد على النفوذ الأمريكى في العالم، فيما يرى فريق آخر، أنها لن تشكل محور تحالف ضد الولايات المتحدة لأن ما يهمها هو الصعود الاقتصادى وعدم الزج بنفسها في صراع يهدد ما وصلت إليه عبر عقود طويلة، أو الزج بها في صراعات أخرى، لكن جاءت الحرب الروسية الأوكرانية وكشفت أن الصين عصفور مستهدف بعد ورفع الميزانية العسكرية، وبناء قاعدة عسكرية في جيبوتى هي الأولى لها خارج حدودها، وتنامى اقتصادها العملاق الذى أصبح ثانى قوة اقتصادية في العالم والتي أعتقد من وجهة نظرى أنها القوة الأولى الفعلية على الأرض اقتصاديا، خلاف التخوف الأمريكي من التقارب الروسى الصينى وتشكيل محور عدائى يهدد هيمنها في ظل تقارب مؤكد حدث بين الصين والأوروبيين، وأعتقد أن هذا التخوف ترجمته المساعى الأمريكية لتطويق الصين بقواعد عسكرية في كل مكان من بحر الصين وتايوان واليابان، إلى بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى، مروراً بمحاولة إجهاض كل مساعي الصين لتأمين خطوط إمدادات طاقة آمنة لاقتصادها الذى لا يزال ينمو بشكل لافت ومتسارع، وترجمته أيضا قيام أمريكا بتفجير العديد من الأزمات الإقليمية في تايوان وشبه جزيرة كوريا وكشمير وجزر جنوب بحر الصين، ومحاولة إرهاق بكين في سباق تسلّح يستنزف طاقاتها ويفجر تناقضاتها السياسية والاقتصادية، وما حدث في تايون من زيارة نانسى بيلوسى ليس ببعيد.
والسؤال الآن .. ألم ترى أن هذا كله يُهدد الأمريكان، ويجعل روسيا والاتحاد الأوروبى والصين عصافير ثلاثة، لابد من استهدافهم ومحاصرتهم في أقفاص مغلقة، واجبارهم على الدوران في الفلك الأمريكي سياسيا واستراتيجيا من أجل استمرار هيمنتها وزعامتها على العالم ..