تبدو أهمية القمة العربية الصينية، التي عقدت في المملكة العربية السعودية، في كونها تمثل مرحلة مهمة، في الإطار الرسمي، نحو التحول في النظام الدولي من حقبة الهيمنة الأحادية إلى التعددية، بعد مراحل من الإرهاصات التي شهدها العالم في السنوات الماضية، من صعود قوى دولية جديدة، تزامنا مع تراجع قوى أخرى، في ظل رغبة الصين العارمة للقيام بدور أكبر على المستوى العالمي، من خلال تحويل منتدياتها الوزارية، التي شرعت في تكوينها، منذ سنوات، إلى تعاون على مستوى القمة، مما يساهم في تعزيز منهج الشراكة الدولية، في المرحلة المقبلة، مما يعود بالنفع على كافة الأطراف المشاركة.
ولعل التحرك الصيني، نحو عقد ثلاثة قمم متزامنة، على المستوى الثنائي مع الدولة المضيفة (المملكة العربية السعودية)، وعلى المستوى العربي الجمعي، ثم على مستوى دول الخليج، يعكس استنساخا للقمم التي عقدتها واشنطن، في مايو 2017، في مستهل حقبة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، مع اختلاف الظروف التي أحاطت بكل منهما، فالقمم الأمريكية العربية، حملت في طياتها هدف تصالحي، بعد سنوات الفوضى التي أججتها إدارة سلفه باراك أوباما، سواء على المستوى الفردى في كل دولة عربية خلال "الربيع العربي" من جانب، أو على المستوى العربي في صورته الكلية، عبر تبديل التحالفات الأمريكية، وتحويل وجهتها نحو تدشين قيادات إقليمية غير عربية للمنطقة على حساب القوى العربية الرئيسية، التي طالما اعتمدت عليهم واشنطن لعقود، من جانب أخر، أو على مستوى دول الخليج، والتي تأثرت مواقفها تجاه الحليف الأمريكي، إثر تجاهل مصالحها فيما يتعلق بإبرام الاتفاق النووى مع إيران، والذى تم توقيعه في 2015، وهو ما أثار مخاوف أمنية كبيرة لديهم، من جانب ثالث.
النهج "التصالحي" الأمريكي تواصل عبر سياسات من شأنها إعادة الأوضاع إلى أصلها، عبر محاولة العودة إلى إستعادة التحالفات القديمة، ناهيك عن الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، لاسترضاء أطراف المعادلة الإقليمية، إلا أن عامل التوقيت ربما لم يكن مناسبا، في ظل مقدمات طويلة الأمد نسبيا، اختلفت فيها السياسات الأمريكية مع تغير الإدارات، منذ بداية الألفية، والتي شهدت حملة أمريكية شعواء حملت صبغة دينية، في عهد جورج بوش الإبن، ضد الدين الإسلامي، على خلفية أحداث 11 سبتمبر، أثارت غضب الدول العربية، ليتلوها خطاب المصالحة الشهير الذى ألقاه أوباما من جامعة القاهرة في يونيو 2009، ثم التحول، خلال إدارة الأخير، نحو تدشين تحالفات إقليمية مع قوى غير عربية، عبر تهميش العرب وإضعافهم، ليتبنى خليفته ترامب في مستهل حقبته نهجا تصالحيا جديدا، في القمم العربية المذكورة.
وبين نهج "المصالحة" الامريكي المتكرر، و"الشراكة" الصينية، ثمة اختلافات جوهرية، تعزز الموقف الصيني، ربما أبرزها عامل الثقة، المتمثل في العديد من المعطيات، أبرزها حرص بكين على تعزيز التعاون مع الدول العربية، سواء سياسيا، عبر دعمها للقضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، أو اقتصاديا، من خلال التبادل التجاري، أو في زمن الأزمات، وهو ما بدا خلال فترة الوباء، التي قدمت فيها الحكومة الصينية العديد من المساعدات، في صورة كميات كبيرة من اللقاح، أو أجهزة التنفس الصناعي لتقدم نفسها كشريك حقيقي للدول العربية، في الوقت الذي عجزت فيه القوى المهيمنة عن القيام بدور ملموس دوليا على احتواء الأزمة، وهو ما تكرر مع أزمات أخرى، على غرار المناخ والتي تنصلت واشنطن فيه من التزاماتها عبر الانسحاب من اتفاقية باريس، قبل العودة إليه مجددا، مع انطلاق حقبة بايدن، ناهيك عن المستجدات في أوكرانيا وتداعياتها على المنطقة العربية والعالم دون حراك حقيقي من الجانب الأمريكي.
على جانب أخر، يبقى احترام "الهوية" من الجانب الصيني، أحد أهم النقاط، التي من شأنها تعزيز العلاقة مع المنطقة العربية، في ظل استهداف متواتر من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة لـ"الهوية" سواء في صورتها الإسلامية، خلال حقبة بوش الإبن، أو "العربية"، خلال حقبة أوباما، وهو ما يبدو بوضوح، ليس في حرص بكين على تعزيز علاقتها بالقوى العربية المؤثرة فحسب، وإنما أيضا على المستوى الجمعي، وهو ما يبدو في المشاركة الفعالة لجامعة الدول العربية، وأمينها العام أحمد أبو الغيط، في القمة الاخيرة، باعتبارها الكيان الجامع للهوية، في انعكاس صريح للاختلاف الكبير في النهج الصيني، القائم على تعزيز الشراكة بمختلف صورها.
ويبدو تعزيز الشراكة العربية الصينية في اللحظة الدولية الراهنة، متواكبا إلى حد كبير مع طبيعة المرحلة، التي تتواتر فيها الأزمات، فيما سبق وأن أسميته بـ"إعادة رسم الخريطة الإقليمية" للعالم، عبر توسيع التعاون والتكامل مع مختلف مناطق العالم، وهو ما يبدو واضحا في التوافقات الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالأبعاد الاقتصادية، والتي من شأنها التخفيف من حدة الأزمات الراهنة التي باتت تضرب العالم، وفي القلب منها المنطقة العربية، ناهيك عن التوجه العربي العام نحو تنويع التحالفات، وعدم الاعتماد على حليف واحد، وتبني موقفا أكثر حيادية من الصراعات التي يشهدها المجتمع الدولي.
وهنا يمكننا القول بأن القمة العربية الصينية، تمثل تعزيزا لمنهج "الشراكة" التي تتبناه كافة الدول العربية في المرحلة الراهنة في علاقاتها على المستويين الإقليمي والدولي، لتحقيق المصالح المشتركة، في ظل أزمات طويلة الأمد، وغير محدود الأبعاد فيما يتعلق بالجغرافيا، وبالتالي يبقى احتوائها مرهونا بالقدرة على تعزيز التعاون مع كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولى، في ظل محدودية القدرات التي تملكها دولة واحدة مهما بلغت إمكاناتها في التعامل مع الأوضاع الراهنة، وهو ما يمثل نجاحا كبيرا للعرب، سوا، على المستوى الفردى او الجمعي، في التحول إلى منطقة استقطاب بين القوى الدولية المتنازعة على القيادة العالمية، لتتحول المحن الدولية الراهنة إلى منح من شأنها تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية، ناهيك عن كونها فرصة لتوحيد المواقف العربية في مختلف القضايا المطروحة على الساحة الدولية.