رُبما أتت رياح التغيير في خريطة التحالفات الدولية، وكلنا نعلم أن انطلاق صافرة الحرب بين روسيا وأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضى، والتى أتت فى سياق المواجهة بين القطب الروسى والغرب، كان إيذانًا ببدء حرب سياسية طويلة الأمد، مجهولة النهاية، ممتدة الأثر .
في تلك الأثناء بدأ الالتفات إلى الكتلة العربية والأفريقية كفاعل وليس مفعول به، فاعل في مشهد تسيطر عليه "الضبابية"، ورغم محاولات تبدو أنها سباق محموم لاستقطاب تلك الكتلة بين أطراف اختارت خوض الصراع الأحمق على كرسى رئاسة العالم المتجه للمجهول، إلا أن تلك الكتلة أبت أن تكون تابعًا لأى من أطراف ذلك الصراع، وكان قرارها عدم الانحياز واتباع نهج التوازن في العلاقات الخارجية والوقوف على مسافات متساوية من جميع الأطراف؛ على أن تكون الأولوية حتمًا لمصالح شعوبها، ودعم كل ما يصون الأمن والاستقرار الإقليمى والعالمى.
جاءت "القمة العربية - الصينية للتعاون والتنمية"، التي استضافتها الرياض مؤخرًا بالتزامن مع زيارة الرئيس الصينى شي جين بينج للمملكة، وبمشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى وعدد من قادة الدول العربية، تعبيرًا واضحًا عن هذا القرار وإعلانًا لتلك الإرادة العربية بتجاوز أى خلافات أو مصالح ضيقة، والوقوف صفًا واحدًا لحجز موقع يليق بتاريخ وإمكانات تلك الدول فى خريطة يُعاد تشكيلها، تحتفظ فيها مصرـ بحكم موقعها الجغرافى وتاريخها الحضارى وثقلها السياسى ـ بالدور المحورى كلاعب رئيس يقود جهود التوازن العربى الشرق أوسطى الإفريقى بين الغرب والشرق في المجالات كافة.
فقد كانت مصر أول من أسس العلاقة بين الصين والعرب فى العصر الحديث، وبالرغم من أن قدم تلك العلاقة التى يعود تاريخها إلى ما قبل ألفى عام ـ كما ورد فى "كتاب هان- سيرة تشانج تشيان"ـ وكان طريق الحرير الذي تسعى الصين حاليًا لإحيائه عبر مبادرة "الحزام والطريق"، هو المسار الذي انتقلت من خلاله الحضارة من الشرق إلى الغرب عبر العالم الإسلامي والصين في العصور الوسطى وهو ما أسهم في تغيير العالم، إلا أن مصر كانت نقطة الانطلاق الأولى فى مسار العلاقات العربية - الصينية، والأفريقية ـ الصينية فى العصر الحديث، حيث كانت أول دولة في الشرق الأوسط تقيم تبادلًا دبلوماسيًا مع الصين منذ عام 1928، وفى سبتمبر عام 1935، افتتحت بكين أول قنصلية لها بمنطقة الشرق الأوسط في القاهرة، كما أن مصر أول دولة عربية وأفريقية اعترفت بالصين الجديدة (جمهورية الصين الشعبية) في الثلاثين من مايو عام 1956.
واستمرت العلاقات فى نمو مطرد، إلى أن كانت نقطة التحول الكبرى فى مسار تلك العلاقة عندما تأسس منتدى التعاون العربي الصيني بالقاهرة فى سبتمبر عام 2004، ليصبح الإطار الجامع للتعاون العربي الصيني بكافة المجالات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، ومنذ ذلك التاريخ أخذت العلاقات فى النمو بشكل متسارع حتى أصبح هناك حوالى 20 آلية للتعاون، على سبيل المثال مؤتمرات رجال الأعمال واجتماعات وزراء الخارجية والحوار السياسي الإستراتيجي، واستمرت العلاقات فى التنامى خاصة على الصعيد الاقتصادى، يُدلل على ذلك حجم التبادل التجاري بين الصين والمنطقة العربية، حيث ارتفع من 36 مليار دولار فى 2004 إلى 330 مليار دولار عام 2021، فيما بلغ حجم التبادل التجارى بين مصر والصين 20 مليار دولار.
تُعد القمة "العربية ـ الصينية"تدشينًا لمرحلة جديدة في مسيرة الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية والصين، وبداية فصل جديد من تاريخ علاقات التعاون الاقتصادى بين الجانبين، تلعب فيه مصر والسعودية دورًا بارزًا، خاصًة أن رؤية الصين فى التعاون مع المنطقة من خلال مبادرة "الحزام والطريق" أو طريق الحرير الجديد بمشاركة 20 دولة عربية، تتقاطع مع رؤيتى مصر والسعودية 2030 للتنمية.
ومن الرياض إلى واشنطن، تتجه الأنظار إلى القمة "الإفريقية ـ الأمريكية" الثانية، حيث عُقدت القمة الأولى فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما عام 2014، التى تنطلق غدًا الثلاثاء بالعاصمة الأمريكية، بدعوة من الرئيس الأمريكى جو بايدن وبمشاركة 49 من قادة أفريقيا بينهم 9 دول عربية، ويُستثنى من الدول الإفريقية أربع دول معلقة عضويتهم من قبل الاتحاد الأفريقي.
تلك القمة التى تؤكد أن مصر العربية الشرق أوسطية الإفريقية تبقى القاسم المشترك بين المعادلات الدولية والرقم الصحيح فى كل معادلة، ففى الوقت الذى تتمدد فيه العلاقات مع الصين، تفتح مصر ومعها بقية دول القارة الإفريقية، أياديهم مرحبين بتعزيز سبل التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبالمقابل يسعى الجانب الأمريكى من خلال تلك القمة للانتقال إلى مرحلة حراك حقيقى فى العلاقات مع أفريقيا مدفوعا بقناعة أمريكية، عبرت عنها وزارة الخارجية قبيل انعقاد القمة، بأن أفريقيا ستعيد صياغة مستقبل العالم وليس الشعوب الإفريقية فقط، وستُحدث فرقًا واضحًا في مواجهة التحديات.
تلك القناعة التى تدفع واشنطن لاتخاذ خطوات تُبدى من خلالها عزمًا حقيقيًا على خلق أفق أرحب للشراكة بين الطرفين، ووضع رؤية جديدة لمستقبل العلاقات مع القارة السمراء أكثر نضجًا ومواءمة لواقع الأزمات الذى يعيشه العالم، وما يفرضه ذلك من إعادة ترتيت أولويات الشراكة خاصة فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار، ولا يقتصر التعاون على الحكومات فقط بل يتسع ليشمل القطاع الخاص والمجتمع المدني.
وفى إطار إبداء حسن النوايا أيضًا من قبل الجانب الأمريكى تجاه القارة السمراء سيطالب الرئيس جو بايدن خلال أعمال القمة، الممتدة لثلاثة أيام، بانضمام الاتحاد الإفريقي إلى مجموعة العشرين، وربما يقود هذا للنظر فى تلبية مقترحات إفريقية أخرى مثل تلك التى تتعلق بعدالة النظام الدولى، وتمثيل القارة السمراء فى مجلس الأمن بمقعدين دائمين، وهو المطلب الذى عارضته الولايات المتحدة الأمريكية فى السابق، وربما نرى أيضًا الرئيس الأمريكى جو بايدن يقوم بزيارته الأولى للقارة السمراء التى لم يزرها من قبل!
إن القمة "الإفريقية ـ الأمريكية" تُعزز مبدأ التعاون من أجل الأمن والتنمية، خاصة فى ظل التحديات التى يواجهها العالم حاليًا، وفى مقدمتها التحديات المتعلقة بالأمن الغذائى والطاقة، وهو ما سبق أن أكده وزير الخارجية الأمريكى أنتوني بلينكين خلال زيارته لجنوب أفريقيا فى أغسطس الماضى، فالاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا ـ والتى تستعرضها واشنطن من خلال القمة ـ ترتكز على العمل المشترك من أجل توفير الصحي الإقليمي والدولى والأمن الغذائى وزيادة نطاق عمل البرنامج الأمريكى "الغذاء من أجل المستقبل"في أفريقيا، ودعم سبل مواجهة التحديات المُناخية والتحول إلى الطاقة المتجددة، تجديد الالتزام الأمريكى بأمن إفريقيا ودعم تطورها الديمقراطى، ودعم القيادات الإفريقية الشابة ودور المجتمع المدنى وتعزيز السلام والانفتاح على المجتمعات، وزيادة فرص التعاون الاقتصادى الأمريكى الإفريقى، والعمل أيضا على زيادة الاستثمارات الأمريكية فى أفريقيا وحجم التجارة البينية، فقد بلغت قيمتها بين 64.3 مليار دولار عام 2021، وهو ما يمثل فقط 2٪ من حجم التجارة العالمية الأمريكية.
تعمل القمة على تعزيز تحقيق الأهداف المرجوة منها، من خلال عقد ثلاثة منتديات هى منتدى "الشراكة الشاملة من أجل تعزيز أجندة 2063"، الذى يمثل منصة مشتركة بين كبار الممثلين الحكوميين والمجتمع المدني، و منتدى "قادة شباب إفريقيا والمهجر" الذى يشدد على الالتزام بترسيخ الحوار بين المسئولين الأمريكيين والأفارقة في المهجر وتوفير منصة لشباب القادة الأفارقة من أجل التوصل إلى حلول مبتكرة للتحديات، وتختتم القمة أعمالها بمنتدى قادة الأعمال الأمريكيين والأفارقة، "الشراكة من أجل مستقبل أكثر ازدهارا لخلق فرص عمل وتحقيق النمو المستدام والشامل على جانبي المحيط الأطلنطي".
إجمالًا، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تلك القمة إلى إنعاش العلاقات مع القارة السمراء بمختلف المجالات، تلك العلاقات التى تعود بدايتها التاريخية إلى عام 1777، حينما اعترفت المغرب بالولايات المتحدة التى أعلنت استقلالها عام 1776، وكانت بذلك أول دولة فى العالم تعترف بالولايات المتحدة، ثم وقعت معها معاهدة صداقة والتى تُعد أقدم معاهدة دولية فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، واستمرت العلاقات بين أمريكا والدول العربية والإفريقية صعودًا وهبوطًا، إلى أن عاد الاهتمام الأمريكى بتنمية تلك العلاقات مجددًا.
تأتى مصر فى القلب من تلك العلاقة، نظرًا لأهميتها كدولة عربية إفريقية ولثقل تواجدها الدبلوماسى على الساحة الإفريقية، كما أصبحت الدولة الرائدة التى تقود جهود التنمية المستدامة فى القارة السمراء، وهناك العديد من المشروعات التنموية التى تنفذها مصر حاليًا فى أكثر من دولة إفريقية، كما تمثل مصر خط الدفاع الأول عن الوجود الإفريقى وحقوق الأفارقة وتحظى بثقتهم، وهذا ما أكده عدد كبير من القادة والمسئولين والشباب الأفارقة خلال قمة المناخ COP27، سواء فى كلماتهم الرسمية أمام القمة أو خلال حوارات أجريتها معهم على هامش القمة.
إن الاهتمام المصرى بإفريقيا لا يحتاج إلى براهين، فقد شهدت السياسة الخارجية لمصر، فى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى توجهًا قويًا ناحية القارة الإفريقية، حيث كثفت مصر مشاركتها فى بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام بإفريقيا واستعادت موقعها ضمن أكبر 10 دول مساهمة فى تلك البعثات، وكانت مصر أيضًا أول من يبادر بإرسال المساعدات للبلدان الإفريقية سواء التى تواجه كوارث طبيعية أو تلك التى تعانى أزمات و أوبئة، كما كان للقارة النصيب الأكبر من الزيارات الخارجية التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه الرئاسة فى عام 2014؛ حيث بلغ عدد زياراته إلى دول القارة السمراء حتى عام 2020 (27) زيارة، بل إن الدولة المصرية لم تغفل الاهتمام بشباب القارة أيضًا، فاستضافت مصر على أرض أسوان منتدى الشباب العربى الإفريقى العاشر فى ديسمبر عام2019.
لطالما اعتمدت السياسة الخارجية المصرية مبدأ "الأيد المفتوحة" وأبدعت فى دبلوماسية العلاقات الخارجية، واضعًة مصلحة شعبها ثم مصلحة المنطقة أولوية لأهداف تلك العلاقات، إن الاحترافية والرؤية الواضحة جعلت الدولة المصرية قادرة على خلق تحالفات ورسم مسارات تعاون مع مختلف الأقطاب فى ظل ظروف دقيقة.
إن الواقع يؤكد بما لايدع مجالًا للشك ألا تعارض بين العلاقات العربية ـ الصينية من جهة، والعلاقات العربية ـ الإفريقية ـ الأمريكية من جهة ثانية، خاصة أن الأولى تتركز على التعاون الاقتصادى التنموى، والثانية تتركز على التعاون الاقتصادى السياسى الأمنى.
رُبما التوقيت الذى جاءت فيه القمتان يُكسبهما مزيدًا من الأهمية، فالعالم يشهد تحولات دراماتيكية تقود لإعادة صياغة تحالفاته فى ظل صراعات طاحنة، فى وقت لم تتعافى فيه الدول من معركتها الشرسة مع جائحة كورونا، التى أنهكت اقتصاداتها ولا تزال تعانى من تداعيات تلك الجائحة، ثم توالت أزمات الطاقة والتضخم والأمن الغذائي الناجمة عن الحرب وتحديات التغير المُناخى، إضافة إلى التحديات الداخلية سواء فى القارة الإفريقية أو المنطقة العربية أو فى الداخل الأمريكى.
سيظل الماراثون الدولى بُغية الفوز بكعكة القارة السمراء مستمرًا، ولكن تبقى "مصر" كلمة السر لإنجاح أى خطة تهدف لشراكة ممتدة سواء مع العرب أو الأفارقة.