الانحراف الأخلاقى وراء انهيارها
ولما تزايد الخطر الإسبانى ضد مسلمى الأندلس بعد حادثة بربشتر سنة 456 هـ وجه أبو حفص عمر بن حسن الهوزنى رسالة إلى المعتضد ابن عباد
433 - 462هـ»، دعاه فيها إلى الجهاد، كما بين فيها شدة معاناة المسلمين، وسبب تزايد الخطر النصرانى عليهم، وأنه لا خلاص للمسلمين من واقعهم المر إلا بالرجوع إلى ميدان الجهاد، ونبه الهوزنى ابن عياد إلى الخطر المحدق بالمسلمين هناك، كما بين له أن الخلاص من ذلك المأزق لا يتم إلا بالتخلى عن الذات، وجعل الجهاد هو الهاجس الدائم للمسلمين هناك عامتهم وخاصتهم.
ويذكر المؤرخون أن موقف ابن عباد من تلك الرسالة كان سيئاً، فما إن تلقاها حتى أرسل إلى الهوزنى يستدعيه للقدوم إلى إشبيلية، فلما قدم إليه أخذ يسعى للقضاء عليه حتى تمكن من قتله سنة 460 هـ، وبالإضافة إلى هذه الحادثة فقد ذكر المؤرخون العديد من الأمثلة التى قام بها المعتضد بن عياد من أجل تثبيت قدميه فى السلطة، حينما يرى أن سلطانه أصبح فى خطر، حيث تطاول على العديد من القادة والعلماء كما قتل ابنه، من أجل هذا الغرض.
وكان ملوك الطوائف يسعون دائماً إلى إيجاد ما يدعمون به ملكهم ويثبت أقدامهم فى السلطة، ومن ذلك بذلهم العطاء الوافر للشعراء والأدباء الذين يقولون قصائدهم فى مدحهم، وقد أسرفوا فى هذا الأمر إسرافاً لا مثيل له، وعلى سبيل المثال فقد منح المعتمد بن عباد الشاعر عبدالجليل بن وهنون ألفين من الدنانير على بيتين من الشعر، بينما منح المعتصم بن صمادح قرية بأكملها للشاعر أبى الفضل جعفر بن أبى عبدالله بن مشرف حينما أنشده قصيدته التى مطلعها: قامت تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ ضعيفة الخصر والميثاق والنظر ولما بلغ منها قوله: لم يبق للجور فى أيامهم أثر إلا الذى فى عيون الغيد من حَوَرِ، قال المعتصم: «لقد أعطيتك هذه القرية نظير هذا البيت الواحد ووقع له بها وعزل عنها نظر كل وال».
وقد ذكر عن على بن مجاهد صاحب دانية أنه «طلب السِّلم وأغمد السيف وكانت همته فى خراج يَجْبٍيه ومتجرٍ يُنَميه».
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة التى ذكرناها أن الأنانية وحب الذات قد تأصلت عند ملوك الطوائف حتى أصبحت خلقاً مألوفاً لدى الكثير منهم يصعب عليهم التخلص منها أو السعى لغيرها. وهذا بلا شك كان من أكبر معاول الهدم التى أصابت قوة المسلمين فى تلك الفترة، وقد أدرك هذه الحقيقة عدد من مؤرخى تلك الفترة، فقال ابن حيان شيخ مؤرخى الأندلس: «دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد غربلة فسفسف أخلاقهم، وسفه أحلامهم، وخبث ضمائرهم... فاحتوى عليهم الجهل، يعللون نفوسهم بالباطل..».
كما عد ابن حزم هذا الانحراف الذى منى به ملوك الطوائف بأنه منزلق خطير وظاهرة لها ما بعدها من الآثار السلبية حيث قال: «اللهم إننا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم فى معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً فى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة ملتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة، وانطقت ألسنة أهل الكفر والشرك»، بالإضافة إلى هذا فقد ذكر ابن حزم فى موضع آخر أن الأنانية وحب الذات قد تأصلت فى نفوس أولئك الحكام حتى كأن الأندلس إنما خلقت لهم ولتحقيق رغباتهم، وأنهم يقدمون فى هذا السبيل ومن أجل هذا الغرض تنازلات كبيرة حيث قال فى ذلك: «والله لو علموا أن فى عبادة الصلبان تمشية أمورهم بادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنوهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم.. وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس»، وهكذا نرى كيف أن الأنانية وحب الذات عند ملوك الطوائف قد جعلتهم يقدمون التنازلات الكثيرة للنصارى من أجل البقاء فى السلطة حتى ولو كان ذلك على حساب مصلحة المسلمين العامة.