"لا مجال لتعافى الاقتصاد العالمى من دون القارة السمراء.. أفريقيا جزء من المفاوضات في كل غرفة يتم فيها مناقشة التحديات العالمية"..هكذا لخص الرئيس الأمريكى جو بايدن أهمية القارة الأفريقية ليس بالنسبة لبلاده فقط، بل فى موازين القوى العالمية أيضًا، تلك القارة التى كانت محور اهتمام العالم خلال قمة الثلاثة أيام التى عُقدة بواشنطن العاصمة خلال الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر الجارى، والتى جمعت رؤساء وقادة 49 دولة أفريقية ومسئولين أمريكيين ورؤساء أكثر من 300 شركة أمريكية وأفريقية، وتركزت النقاشات على قضايا الأمن الغذائى وتحديات المُناخ وتنمية الشراكات الاقتصادية بين الجانبين ومكافحة الإرهاب.
المخرجات التى تمخضت عنها تلك القمة تصب فى صالح ترميم وإصلاح العلاقات الأفريقية الأمريكية، وتؤشر ببداية عهد جديد من الشراكة بين الجانبين الأفريقى والأمريكى، علَّ من بين أبرز تلك المخرجات الترحيب الأمريكى بانضمام الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين وتخصيص مقعد دائم للقارة في مجلس الأمن الدولي، ودعم اندماج القارة الإفريقية في الاقتصاد العالمي عبر شراكات متعددة، و قرار الرئيس بايدن بالعمل مع الكونجرس لجلب الاستثمار وتخصيص مليارات الدولارات لتمويل قطاع البنية التحتية والقطاع المصرفي الرقمي لبناء وتكوين رؤى جديدة ومكافحة الفساد.
ليس هذا فحسب، بل قررت الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا تقديم 55 مليار دولار للقارة، وتخصيص 200 مليون دولار لدعم القطاع الصحى في عدد من الدول الإفريقية؛ من أجل جهود التعافي من جائحة كورونا وكذلك مساعدة الدول لتصنيع اللقاحات والأمصال لمكافحة الأوبئة والأمراض، والعمل على دعم محطات الطاقة الشمسية في القارة الإفريقية، كما تعهد الرئيس بايدن بتقديم 40 مليار دولار لدعم القطاعات المختلفة بأفريقيا، وتقديم أكثر من 11 مليار دولار في قطاع الأمن الغذائي بإفريقيا.
ورغم بريق تلك التعهدات إلا أن كثيرين شككوا فى الالتزام الأمريكى بالتنفيذ، تأسيسًا على التجربة السابقة فى القمة الأولى التى عُقدت عام 2014 والتى انتهت إلى وعود بمشروعات لم ترَ النور، ولتجنب تلك الأخطاء ولطمأنة الجانب الأفريقى قرر بايدن تعيين ممثل أمريكى خاص لأفريقيا لمتابعة تنفيذ المبادرات، وإنشاء مجلس استشارى للقارة الأفريقية، كما تعهد البيت الأبيض بوضع القارة الأمريكية فى أولويات السياسة الخارجية.
إن القرار الأمريكى بتصحيح مسار العلاقات مع أفريقيا، وإن كان متأخرًا، إلا أنه جاء بعد دراسة للأوضاع الحالية ولم يكن وليد اللحظة، فقد سبقه بعض الإجراءات من بينها زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتونى بلينكن للقارة الأفريقية، وأيضًا إقرار الوثيقة الاستراتيجية الخاصة بإعادة صياغة العلاقات الأمريكية مع أفريقيا أغسطس الماضى، كما كانت هناك أيضًا شراكات ذات طابع ثنائى بين أمريكا وبعض الدول الأفريقية، ولكن واشنطن أدركت أن التوقيت يحتم مشروع الشراكة الجماعية المبنى على أساس وحدة الكيان الأفريقى، خاصة فى ظل مُتغيرات فرضت حقيقة أن القارة رافد اقتصادى مهم للعالم إضافة إلى أهميتها الجيواستراتيجية، وهى رقم أساسى إن لم تكن الرقم الأهم فى المعادلة السياسية التى تُشكل النظام الدولى الجديد، فأفريقيا ليست فقط القارة الأسرع نمواً سكانيًا ولكنها تتمتع بمواقع جغرافية مهمة وهى أيضًا الأغنى بالثروات المعدنية والطبيعية والبشرية، ومصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية.
ورُبما كان الدافع الأول لهذا القرار الأمريكى هو مواجهة النفوذ الدولى فى القارة السمراء، خاصًة أن الأمر بالنسبة لأمريكا ليس اقتصاديًا فقط ولكنه سياسيًا وأمنيًا أيضا، حيث إن هناك قوى عالمية سبقت القارة الأمريكية فى ترسيخ الشراكة مع أفريقيا؛ فقد استضافت مدينة مونبلييه جنوب شرق فرنسا القمة الأفريقية ـ الفرنسية فى أكتوبر العام الماضى، وكان محورها الأساسى الشباب الأفريقى، ثم استضافت تونس القمة اليايانية ـ الأفريقية (تيكاد) أغسطس الماضى، وتعهدت اليابان خلالها بتقديم 30 مليار دولار استثمارات لدفع عجلة التنمية في أفريقيا، وهو ما وصفه مراقبون بأنه مسعى من طوكيو لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي في أفريقيا من خلال تعزيز تنمية يقودها الأفارقة بأنفسهم.
ورغم أن الحضور الروسي في القارة الأفريقية قد شهد تراجعًا واضحًا خلال العقد الذي تلا تفكك الاتحاد السوفيتى؛ تمثل فى إغلاق عدد من السفارات والتمثيليات القنصلية، والاستغناء عن العديد من المراكز الثقافية الروسية، وإلغاء برامج مساعدات خارجية عديدة، لكن روسيا شرعت في استعادة نفوذها السياسى والاقتصادى في هذه القارة مع وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم منذ عام 1999، وظل الاهتمام الروسى بأفريقيا يتزايد خاصة بعد فرض حزمة العقوبات عليها من قبل الغرب إثر ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، وفى سياق هذا الاهتمام بالقارة السمراء استضافت مدينة سوتشي الروسية، لعامين متتالين (2018 و2019)، قمة "روسيا- أفريقيا" برئاسة مشتركة للرئيسين عبدالفتاح السيسي وفلاديمير بوتين.
ولم تكن الصين بعيدة عن حلبة المنافسة، ففى سبتمبر من عام 2018 عُقدت قمة الصين ـ أفريقيا، والتى تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ خلالها بتخصيص 60 مليار دولار للمساعدات والاستثمارات في الدول الأفريقية، لتُعزز الصين وجودها فى أفريقيا ثم جاءت مؤخرا القمة الصينية العربية التى أكدت فيها الصين على علاقاتها مع جزء مهم من دول القارة الأفريقية أيضا.
وها هى الولايات المتحدة الأمريكية تلحق بركاب من سبقوها إلى القارة السمراء، بخلق مسارات لإنعاش التعاون الاقتصادى مع القارة مع التركيز على تعزيز قدرات الشباب والمرأة الأفريقية، من خلال التعهد بتخصيص أكثر من مليار دولار سنويًا لدعم شباب أفريقيا، وبرامج خاصة لتعزيز قدرات الفتيات الإفريقيات اللاتى تتمتعن بطاقة هائلة ومهارات مميزة لريادة الأعمال في القطاعات المختلفة.
فى هذه المرحلة المهمة تُمثل مصر حلقة الوصل بين الولايات المتحدة وأفريقيا لكونها بوابة أفريقيا، خاصًة أن مصر أكبر قوة عسكرية وثانى أكبر قوة اقتصادية فى القارة الأفريقية بعد نيجيريا، متجاوزًة بذلك اقتصاد جنوب أفريقيا العضو بمجموعة العشرين، كما أن مصر لديها خبرة كبيرة بكل ما يتعلق بالقارة ومقوماتها واحتياجاتها، وبذلت جهودًا مضنية خلال السنوات الماضية من أجل القارة السمراء والدفاع عن قضاياها وأحلامها أمام العالم.
واستطاعت مصر أن تُحقق مكاسب عديدة لأفريقيا خلال رئاستها للاتحاد للاتحاد الأفريقي عام 2019، وهو ما أشاد به القادة والمسئولون الأفارقة، كان من بين أهم تلك المكاسب إطلاق منطقة التجارة الحرة الأفريقية القارية، ولا ننسى أن مصر أثبتت خلال قمة المناخ، التى عُقدت فى نوفمبر الماضى بشرم الشيخ، قدرة هائلة على حشد القارة السمراء على أرضها كمنبر للتعبير من خلاله عن قضاياهم وطرح مطالبهم العادلة أمام العالم، وقد استطاع الرئيس السيسى أن يبنى ماتحقق من مكتسبات خلال قمة المُناخ لحث الدول الكبرى على الوفاء بالتزاماتها تجاه القارة السمراء ومنها توفير تمويل 100 مليار دولار سنوياً لمواجهة تغير المناخ، كل هذا جعل الحضور المصرى فى القمة الأمريكية - الأفريقية الثانية محوريًا، فقد عكست كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام القمة رؤية مصر الحكيمة للتعامل مع القضايا الإفريقية ورؤيتها لتعزيز الأمن الغذائى بالقارة السمراء ومن بينها تكثيف الاستثمارات الزراعية الموجهة إلى أفريقيا، وهى الرؤية التى لاقت ترحيبًا أمريكيًا، حيث إن الرئيس جو بايدن ألمح أيضًا إلى أن هناك أراضى زراعية غير مستغلة فى أفريقيا من الممكن أن تغير القطاع الزراعى فى القارة.
ومن بين ثمار مشاركة مصر فى تلك القمة أيضًا، فتح آفاق لتطوير سبل التعاون بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال لقاءات عديدة أجراها الرئيس على هامش القمة مع عدد من كبار المسئولين الأمريكيين، ولقائه مع نخبة من مجتمع رجال الأعمال الأمريكي لبحث سبل دفع التعاون فى المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين الجانبين بل إن رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين، أكدوا حرصهم على تعزيز الاستثمارات الأمريكية في مصر في مختلف المجالات خلال الفترة القادمة، خاصة مجال الطاقة المتجددة. كما كان من بين أهم القضايا التى طرحها الرئيس أمام دوائر صنع القرار الأمريكى خلال القمة، أزمة سد النهضة، ما يؤدى إلى الدفع باضطلاع الولايات المتحدة الأمريكية بدورها فى محاولة التوصل إلى تسوية دبلوماسية بشأن تلك الأزمة خلال الفترة المقبلة، وهو ألمحت إليه كلمات وزير الخارجية بلينكن خلال لقائه الرئيس السيسى، وتأكيده على دعم بلاده لجهود حل قضية سد النهضة.
وقد عكست زيارة الرئيس أيضا لوزارة الدفاع الأمريكية أهمية مصر على الصعيد الأمنى والعسكرى بالنسبة للجانب الأمريكى، وقد أعرب وزير الدفاع الأمريكى عن أهمية الدور التاريخى لمصر فى إرساء ونشر ثقافة السلام والعيش المشترك، مقدرا الجهود التى يقوم بها الرئيس السيسى بروح القيادة المتزنة لتحقيق الأمن والاستقرار والتهدئة فى الشرق الأوسط، وهو ما أكده أيضا أعضاء الكونجرس الأمريكى خلال لقائهم الرئيس.
وحتمًا سيتعاظم الدور المصرى خلال المحطات القادمة من الشراكة الأمريكية ـ الأفريقية الجديدة.
إنَّ العهود التى خرج بها البيت الأبيض على العالم فى نهاية القمة الأمريكية ـ الأفريقية، جاءت بمثابة قُبلة على جبين قارة لم تأخذ حقها من الاهتمام الذى يليق بقدراتها وثرواتها، فهل تكفى تلك القُبلة لتضميد جراح الماضى أم ستسارع الإدارة الأمريكية بإتمام ما قطعته على نفسها من عهود، والبرهنة على إرادتها الحقيقية لتصحيح المسار بخطوات تنفيذية على أرض الواقع، حتى لا تتحول تلك العهود إلى كلام مرسل لا محل له من الإعراب؟!