تتطلع مؤسساتنا التعليمية، في ظل رعاية الجمهورية الجديدة، إلى الريادة، ومن ثم تتبنى المبادئ التي تسهم في توفير متطلبات القدرة التنافسية للأسواق المحلية والدولية، وهذا ما تصبوا إليه جميع المؤسسات التعليمية في العالم قاطبة، متحملة في ذلك مخاطرات شتى ومسئوليات جسيمة. ومن ثم تدعم مؤسساتنا التعليمية العمل الابتكاري والحر على حد سواء، ودائما ما يؤكد السيد الرئيس، في دعوته للتجديد، على هذا الأمر، ويمهد الفرص لمن يبتغي الجد والعمل والنهضة والرقي في ميدانه ومجاله.
ويصعب أن تحقق الريادة المزعومة للمؤسسة التعليمية في غياب تدويل مكونات المنظومة التعليمية برمتها؛ حيث يعد التدويل استراتيجية متكاملة تتضمن إجراءات تشمل كلًا من الجانب البشري والمادي والمناهج والبرامج الأكاديمية والبحث العلمي؛ بغرض إضفاء البعد الدولي عليها في إطار من التعاون المشترك، مع ضرورة استمرار تطبيق المعايير الدولية عليها؛ مما يؤدي إلى ضمان تطويرها ومواكبتها لكل ما هو جديد يعود بالنفع المباشر على الفرد والمجتمع.
وفي ضوء ما تقدم يعد التدويل من المقومات الرئيسة لتجويد العملية التعليمية؛ فتتحقق الثمرة المرجوة منه المتمثلة في إعداد متعلم يمتلك نتاجاً معرفياً متجدداً يسهم في ارتقاء المؤسسة التعليمية لمستوى التنافسية على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وهذا الطرح المبسط يرغم المؤسسة التعليمية أن تطالع عبر مسار التدويل كل ما هو جديد من خبرات تنهمر عبر نواتج بحوث متقدمة وثورة صناعية ورقمية غير مسبوقة، لتمتلك الريادة المنشودة.
والتدويل في مكونات العملية التعليمية لا يعني استيراد أو استهلاك ما توصل إليه الآخرون من معارف؛ بل يعني أن تبادر المؤسسة التعليمية بآليات تحسين وتجويد متلازمين يساعدان في تحقيق جودة المنتج البشري وفق الإمكانات المتاحة؛ لتصل إلى خبرات نوعية تعمل على تأهيل منتسبيها لسوق العمل المحلي والدولي في آن واحد، ولا ريب فإن نتاج المعرفة والخبرة التي يمتلكها المتعلمون تتسق تماماً مع الهوية الوطنية لجمهوريتنا الجديدة؛ فلا يغيب عنا أن المؤسسات التعليمية في العالم بأسره تتعرض في مدخلاتها ومخرجاتها وسياساتها إلى خطر تغيير الهوية، والمؤسسة التعليمية في نهاية المطاف تعد الضامن الرئيس لتماسك النسيج المجتمعي.
وحري بالذكر أن المؤسسة التعليمية إذا ما امتلكت المقدرة على إنتاج معارفها وأصحبت مفرزة لمكونات الخبرة المربية ، وذاع نتاجها على الصعيدين العالمي والمحلي فإنه يعد نقطة انطلاق نحو الريادة، ومن ثم تتشكل مقومات التدويل التي تؤسس على اقتصاديات المعرفة وتقنية المعلومات، والتي تعتبر بمثابة شريان سوق العمل المحلي والدولي؛ حيث إخراج وتأهيل ثروات بشرية تمتلك الابتكار في مجالات نوعية يصعب حصرها، ومن ثم فهناك طموحات وآمال قائمة لأن تكابد مؤسساتنا التعليمية لتصل إلى مبتغاها، وهذا يحدث ريثما تكونت الرغبة وتشكل الوعي وبذل الجهد ووفرت المتطلبات وهيئ المناخ التعليمي الداعم كي تتحقق الريادة والتنافسية بمقومات التدويل الذي يعد قاطرة التحديث في العصر الحديث.
وقد بدأت المؤسسة التعليمية، في عهد الجمهورية الجديدة، تخطو خطوات جادة نحو مسار مهم من مسارات التدويل؛ حيث الرغبة في التحسين والتطوير لكل من مواردها البشرية وبرامجها التعليمية بالاستعانة بنظائرها الخبراء والرواد في مجال التدويل، ولا ريب من أن الاستعانة بأصحاب الخبرات يعد مظهراً من مظاهر تدويل التعليم بها، بل وأساسًا لما يستهدفه التعليم الريادي عبر مخرجاته المرتقبة.
وباتت الدعوة الآن صريحة والآمال معقودة نحو تحقيق تعليم ريادي مستحق لعقول مستنيرة؛ بغية أن تنال حقوقها على المستويين المحلي والعالمي في سوق أضحى لا يعترف إلا بمن يمتلك المهارات النوعية التي تسهم في زيادة الإنتاج وفق جودة يصعب التخلي عنها، ولا مجال للانعزال عن المجتمع الدولي لكون ذلك يمثل مخاطرة تشكل فجوة بين الواقع والرغبة في استشراف مستقبل مأمول تنادي به الجمهورية الجديدة تحت رعاية قيادتها السياسية الرشيدة.
وبناءً عليه؛ فإنه ينبغي على المؤسسة التعليمية، وفق سلمها ومجال تعليمها النوعي، أن تتبنى المعايير الدولية في برامجها ومناهجها وما ترتبط به من أنشطة واستراتيجيات وتقنيات وأساليب للتقويم ، بما يؤدي لزيادة قدرتها التنافسية، فما دون ذلك يعتبر مخالفة صريحة لرؤية ورسالة المؤسسة التعليمية بصورة عامة.
وجدير بالذكر إن التدويل لا ينفك عن تكوين المواطن الصالح الذي يمتلك القدرات الابتكارية التي تسهم في تنمية حقيقية مستدامة للعالم بأسره؛ حيث بات مفهوم المواطنة يقوم على التعايش السلمي والنفع الشامل للإنسانية جمعاء؛ لذا صار تعديل سلوك المتعلم وإعداده وفق أنماط التفكير العليا وفي ضوء منظومة القيم والاتجاهات الأصيلة بالمجتمع والتي تؤسس على العطاء والنفع دون انتظار مقابل أمراً لا مناص عنه، كما تعقد الآمال نحو جيل مدرب ينهض بمشروعات دولته الاقتصادية بما يتناسب مع عصر الرقمنة، وبما يساعد هذا الجيل في الحصول على فرص عمل محلية وإقليمية وعالمية.
وهنالك المزيد من المزايا التي تترتب على تدويل التعليم، ومن أهمها إنتاجية المؤسسة التعليمية لأشخاص يتسمون بالابتكار والإبداع في مجال الأعمال لخدمة المجتمعات التي يعيشون بها، ولديهم المقدرة على القيام بأنشطة فريدة لتلبية احتياجات الأعمال والعملاء من خلال اكتشاف الفرص واستغلالها بعقلية استباقية، وتبني المخاطرة المحسوبة؛ لتحقيق الأرباح مما يؤدي إلى مزيد من النمو في صورته المستدامة على كافة الأصعدة، ومن ثم يحقق التدويل في العملية التعليمية نهضة الجمهورية الجديدة ورقيها.
وقد أضحت العديد من المؤسسات التعليمية بمصرنا الحبيبة تمتلك المقومات التي تساعدها في تدويل مكونات المنظومة التعليمية، ومن ثم تمكنها من الريادة بمعناها الحقيقي؛ فتستطيع أن تكسب منتسبيها المقدرة على القيام بمشاريعهم الفريدة وإيجاد فرص عمل متنوعة في السوق الدولي من خلال خبرات تعليمية وبحثية تتسم بالكفاءة والتميز، وهذا ما يدعم إعداد الخريج القادر على سد احتياجات سوق العمل، وهو ما تنتظره الجمهورية الجديدة من أبنائها.
وبنظرة يغلب عليها التخصص، نجد أن المناهج الدراسية في الدول المتقدمة تتمحر حول الوظيفية والتجريب التي تمكن المتعلم من مهارات الاستقصاء والابتكار وبناء الخبرة بصورة تتسم بالعمق، بما يحفز مستوى الدافعية للتعلم لديه، كما يقوم الفهم العميق للمقررات الدراسية على تصور المعرفة العلمية المجردة والتعامل الصحيح معها.
وفي خضم هذا المعني ينبغي على صاحب الرسالة السامية أن يسارع بتوظيف تقنيات التعلم الرقمية لإتاحة استخدام أدوات مشابهة لما يستخدمه العلماء في صومعة العلم، ولا ينفك ذلك عن فوائد عديدة تتمثل في حسن التخطيط والشراكة الحقيقية وبناء النماذج المتسقة مع المعايير العلمية والمقدرة على التحليل والتفسير والابتكار في موضوع التعلم، وما يرتبط به من قضايا مستهدفة، ومن ثم تبادل الخبرات لنتائج مبتكرة تم التوصل إليها، عبر آليات التدويل بين المؤسسات التعليمية في العالم قاطبة.
ولنا أن نعترف بأن المنظومة التعليمية العالمية باتت منفتحة؛ فلا مجال للانغلاق في عصر التعليم الرقمي الذكي، وفي ظل هذا الانفتاح، على صاحب الرسالة السامية أن يمتلك المقدرة على رسم سيناريوهات التعلم التي تحقق ما تطمح إليه جمهوريتنا الجديدة، وأن يمتلك الرغبة والدافعية للتعلم الذاتي المستمر، وأن يطالع كل جديد ويعمل على مواكبته، ويقبله ويتقبله مع الحفاظ على ثقافته وهويته.
لقد صار مواكبة كل جديد، عبر آليات التدويل، أمرًا حتمياً لا خيارًا استراتيجيًا، لمؤسسة تبتغي الريادة في مكوناتها ومنتجها، وذلك بتطوير منظومتها القائمة، لا بإزالتها؛ فما يصعب استيفاؤه اليوم، يمكن بالإصرار والعزيمة والجهد أن نصل إليه غدًا.
حفظ الله بلادنا وقيادتنا ومؤسساتنا التعليمية وفي المقدمة أصحاب الرسالة السامية؛ فإصلاح وصلاح المجتمعات بات مرهونًا بإصلاح التعليم.
أ.د/ عصام محمد عبد القادر
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة - جامعة الأزهر