يبدو أن ثمة حالة من الارتباط بين سياسات الداخل والخارج، في العديد من مناطق العالم، في ظل حقبة من الأزمات، تتسم بالانفراد والتفرد، إذا ما قورنت بحقب سابقة، سواء فيما يتعلق بطبيعتها التي تتسم بالامتداد والتمدد زمنيا وجغرافيا من جانب، أو تداعياتها الكبيرة، والتي تضرب الجميع دون تمييز أو استثناء، غير مبالية بالتصنيفات التقليدية للدول (بين عالم أول وثالث)، ليصبح الخطر الحقيقي يداهم الجميع، ويضعهم في نفس البوتقة، مما يمثل دافعا حقيقيا لتحقيق أكبر درجات التعاون، من أجل تحقيق "شراكة" حقيقية وفعالة، لمجابهة الأوضاع الراهنة، سواء فيما يتعلق بالصراعات الدولية التقليدية، على غرار الأزمة الأوكرانية، أو حالة "الصراع مع الطبيعة"، جراء ظاهرة التغير المناخي، وتفشي الأوبئة والأمراض أو ما يستجد من كوارث قد تأكل الأخضر واليابس، حال غياب موقف دولي صارم، يتسم بالتوازن والتزامن، من شأنه احتواء تلك الأوضاع، في أقرب وقت ممكن.
وبين التزامن، والذي يعتمد ضرورة العمل الدولي لاحتواء كافة الأزمات في آن واحد، من ناحية، والتوازن، القائم على مراعاة مصالح الدولة في الداخل، لتكون نقطة الانطلاق نحو تحقيق المصلحة "الجمعية" سواء في صورتها الدولية والإقليمية من ناحية أخرى، يبقى "الحوار" ضرورة ملحة، في إطار توحيد المواقف، أو على الأقل الوصول إلى أرضية مشتركة، من شأنها إرساء أساس، يمكن البناء عليه في المستقبل بين مختلف الأطراف فى المعادلة السياسية داخليا أو خارجيا، وهو ما يبدو، في العديد من المشاهد الدولية الأخيرة، سواء إقليميا أو عالميا، حيث تبدو القمم الأخيرة، في صورة مغايرة، تحمل في طياتها، حوارا حقيقيا بين القادة، بعيدا عن الصورة النمطية التي تتسم بها تلك الأحداث، في العقود الماضية، بينما تمثل "لبنة" مهمة لتحقيق أكبر قدر من التعاون، بعيدا عن تلك الرؤى التي تبنتها القوى الكبرى، والتي تجاهلت ما يدور في المناطق البعيدة عنها.
ولعل النموذج الذى تقدمه الدولة المصرية، في إطار المزج بين عاملي "التوازن" و"التزامن"، يمثل رؤية استباقية، للكيفية التي تدار بها أزمات العالم الجديد، انطلاقا من الداخل، عبر العمل على تحقيق طفرة تنموية، في الجانب الاقتصادي، مع مراعاة الأوضاع البيئية، وتفعيل دور الشباب والمرأة، ناهيك عن تقديم غطاء من الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة، مع العمل على إعادة هيكلة الخريطة، عبر توسيع الأقاليم في الداخل، مع خلق حلقات اتصال فيما بينها، من شأنها تحقيق التنوع الاقتصادي، بين الزراعة والصناعة، مع الاعتماد الكبير على التكنولوجيا، بينما يبقى تدشين "الحوار الوطني"، والذي يتسم بشموليته، بين مختلف القوى السياسية والفئات المجتمعية، ومنظمات المجتمع المدني، بمثابة "درة التاج"، للجهود سالفة الذكر، لتحقيق حالة من الاندماج بين مختلف الأطياف، في بوتقة واحدة، لتحقيق أكبر قدر من التكامل، في إطار من الحشد لمجابهة الأزمات المتلاحقة، واحتواء تداعياتها.
وهنا كانت "نقطة الانطلاق"، من الداخل المصري، إلى النطاقين الإقليمي والدولي، عبر تحويل نهج "الحوار" إلى القاعدة التي يمكن من خلالها الوصول إلى حلول للأزمات القائمة، وهو ما يبدو على سبيل المثال في مؤتمر بغداد، والذي انطلقت نسخته الثانية في الأسبوع الماضي، حيث يمثل ثمرة لـ"الشراكة الثلاثية" بين مصر والأردن والعراق، ليحمل دعوة "مزدوجة" لـ"الحوار"، بين كافة أطراف المعادلة في الداخل العراقي من جانب، بينما يبقى انعقاد المؤتمر نفسه هو بمثابة حوار إقليمي، يجتمع فيه أبرز أطراف المعادلة الإقليمية، ليصبح الحدث بمثابة "سابقة" مهمة، تجتمع خلالها القوى المتنافسة، مما يمهد الطريق لإرساء أرضية مشتركة، من شأنها تخفيف حدة المنافسة الإقليمية، عبر تحقيق قدر من الشراكة، لتحقيق الاستقرار في العراق، وهو ما يساهم بطبيعة الحال في تعزيز التعاون بين الأطراف نفسها في مجابهة ما يستجد من أزمات، سواء بصورتها التقليدية، أو المستحدثة.
وتزامنا مع النهج الداخلي والإقليمي، تبدو الحالة المتوازنة، التي تتسم بها السياسات المصرية، في السنوات الأخيرة، ممتدة إلى النطاق الدولي الأوسع، وهو ما يبدو بجلاء في قمة المناخ الأخيرة، والتي انعقدت في شرم الشيخ، والتي تحولت إلى منصة "حوار" دولي، لا يقتصر على ظاهرة التغير المناخي، وإنما امتد إلى العديد من القضايا الدولية الأخرى، حيث قدمت مصر نموذجا ملهما لمحيطها الإقليمي، عبر اعتمادها نهج "التنمية المستدامة"، بينما استخدمت ثقلها الدبلوماسي والدولي، للدفاع عن مصالح الدول الواقعة في مناطقها الجغرافية، وحقوقها التنموية، وبالتالي الحاجة لتبني استراتيجية دولية لدعمها، بعيدا عن سياسات الدعم التقليدية التي تتبناها القوى الكبرى في العقود الماضية، والتي اعتمدت تقديم الأموال، دون رؤى حقيقية لحل الأزمات.
ربما كان النجاح المصري الكبير في اعتماد المنهجية "المتزامنة"، و"المتوازنة"، في إدارة الأزمات المحيطة بها، وبمناطقها الجغرافية، ملهما إلى حد كبير في توجيه البوصلة الدولية نحو تلك الأقاليم المهمشة، وهو ما بدا في انعقاد القمتين الصينية والأمريكية، مع دول المنطقة العربية وإفريقيا، على الترتيب، بل والتحرك نحو خطوات مهمة لتفعيل التعاون القائم، عبر مبادرات من شأنها تحقيق الاستقرار الدولي والإقليمي، في تلك المناطق، وتعزيز قدرتها على مجابهة الأزمات، بالإضافة إلى العمل على تحويلهم قوى فاعلة قادرة على المساهمة في تقديم الحلول الفعلية في علاج الأوضاع العالمية.
وهنا يمكننا القول بأن الدولة المصرية نجحت باقتدار في تعميم رؤيتها، في المعادلة الدولية، بصورتها "الجمعية"، عبر الانطلاق من الداخل، والتحول تدريجيا نحو النطاقين الإقليمي والدولي، ليصبح "الحوار" بمثابة منهج دولي، يمكنه تخفيف حدة المنافسة في المرحلة الراهنة، وتحقيق الزخم المطلوب لعملية الحشد التي من شأنها مجابهة الأزمات في اللحظة الراهنة.