نبذت التفرقة بين بنى البشر فى جميع الأديان السماوية، وصارت الوحدة والتعاون والتشارك من الرواسخ التي دعت إليها معتقدات الإنسان وفق طبيعته التي خُلق عليها، والضمير الجمعي البشري أكد ذلك عبر أحداث أظهرت أن التجمعات لها منافع لا حدود لها، وأن التفرقة والفرقة والانفراد تتعدد سلبياته ويسقط المؤيدون لها في مهب التحديات التي يواجهونها؛ فالحياة لوازمها كثيرة، واحتياجاتها متباينة، ويصعب أن يستمتع الإنسان بها منفرداً، أو حتى يتعايش معها وحيداً، هذا لأن طبيعة الإنسان اجتماعية في كليتها.
والناظرِ إلى ما تدافعت به الشعوب والأمم من مفاهيم تؤصل وتؤكد على أن كوكب الأرض معني بحياة بني البشر كافة، وأن ما يحدث في بقعة يؤثر على الأخرى؛ لذا ورد مفهوم عميق دلالته معبرة وسياقه يحمل العديد من المفاهيم الفرعية التي يصعب بحال أن يعيش دونها الإنسان، ألا وهو مفهوم المواطنة العالمية، وماهيته تدور حول عناية الإنسان بالأرض بصورة كلية؛ فلا يصح أن نهتم بمكان على حساب الأخر، وأن نُنمي بقعة على حساب بقعة أخرى، كما يتوجب التوقف على النزاع بكل صوره وأنماطه، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى أضرار تصيب الجميع دون استثناء، وهذا ما أسفرت عنه الحروب على مر العصور، والتي لم يجنِ منها الجميع إلا الخراب والدمار والكره والتعصب لأمور في الأصل غير مجدية.
وقد تشكلت مفاهيم فرعية تحت المفهوم الرئيس (المواطنة العالمية)، عبرت بقوة عن رسالة الإنسان في الأرض باختلاف طيف لونه وعنصره وانتمائه ومعتقده، وهذه المفاهيم دعت إليها وثيقة الأخوة الإنسانية، بل وأكدت على آليات تفعيلها بصورة إجرائية؛ حيث جاءت دعوتها الصريحة للتنوع وتقبل الآخر كونه يعيش في مجتمع عالمي، يتمتع الفرد بدرجة من الوعي بمجريات الأحداث على الساحة العالمية، ووطنه الكبير هو الكرة الأرضية، ومسؤوليته الدفاع عنها والحفاظ عليها، يتأثر بها يؤثر بممارساته عليها، ومن ثم تبلورت المفاهيم تحت مسميات (السلام العالمي، والتنوع الثقافي، والحرية، والعدل والمساواة، والتنمية المستدامة).
وكيف لا وقد شارك في وضع هذه الوثيقة قطبا السماحة على وجه البسيطة (شيخ الأزهر _ بابا الفاتيكان)؛ لذا جاءت فلسفتها مؤكدة على أهمية التضافر العالمي لمواجهة المخاطر والتحديات التي تواجه البشرية جمعاء، وأن الترابط بين البشر بكافة أشكاله وأنواعه بات لا مناص منه، فلا يوجد بلد أو منطقة أو أمة تستطيع أن تعيش بمفردها.
وصور الإرهاب متعددة ومتنوعة على مر العصور، ولا ريب فقد استلت مبرراتها من تصورات مغلوطة، وفكر ضال تحكمه رؤية عقيمة، وتؤسسه نفعية تنطلق من ذاتية أو مجد زائل، وتعضده أصحاب المصالح الدنيئة لتحقق مطامعها وتستنزف قوى الخير، وتستوقف قاطرة النهضة والتقدم؛ ليعود من معصمها تسيير الأمور نحو ما تصبوا إليه، هذا وقد تفاقمت وطأته في الآونة الأخيرة؛ فلم ينجو ولم يسلم منه أحد؛ لتعدد وتطور أدواته وفكره في ضوء مستجدات الحقبة، ومن ثم استلزم أن تستنهض الهمم لتضع آليات تواجه به هذا الطوفان الغادر؛ فبرغم ما تضرب به الدول من أيدي من حديد لتقضي عليه؛ إلا أنه استفحل واستهدف فئات ضعيفة النفوس، هشة العزيمة، صاحبة معتقد فاسد.
لذا استدعت الضرورة أن تدشن وثيقة الأخوة الإنسانية لتعمل على رأب الصدع الذي تمخض عن تفاقم الإرهاب بصوره المختلفة، من خلال الاهتمام بتناول بعض قضايا المواطنة العالمية لا سيما فيما يتعلق بالعيش السلمي مع الآخر، وقبول الاختلاف معه، ويؤكد ذلك مفهومها الذي يشير إلى الإيمان الخالص بأهمية التعايش السلمي مع ثقافات العالم بأسره، والمشاركة الفعالة في إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاته، وشعوره بالانتماء إلى العالم أجمع واحترام مبادئ المساواة وحقوق الإنسان والتسامح والعدالة الاجتماعية والاهتمام بالبيئة العالمية والمحافظة عليها.
ويصعب أن ننكر بحال دور القيادة السياسية في تعضيد هذا الحدث المهم على الساحتين المحلية والعالمية؛ فلم تخلو خطابات ومحادثات وأفعال الرئيس عبد الفتاح السيسي من الدعوة للتعايش والتقبل للأخر، بل والرقي معاً؛ فلا ضير من أن ننمو ونزدهر ونرتقي ونتطلع لمستقبل يحمل الخير سوياً، والمتمعن للفائدة المرجوة يجد أنها مطلب لكل إنسان تحكم نوازعه حب الإعمار والإيثار وأصالة التربية المدعومة بخلق الرفعة والرقي والسماحة، وتلكما ثوابت إذا ما انفك عنها الإنسان فقد رشده وتحول من طبيعته الراقية إلى نفعية مقيتة تصل بصاحبها للهاوية في نهاية المستقر.
وما يؤكد على أن وثيقة الأخوة مطلب إنساني تبنيها لاحترام حقوق وحريّات الآخرين؛ فلا عيش كريم دون حرية، ويصعب أن يستشعر الإنسان حريته بعيداً عن نيل حقوقه التي منحها الشارع الحكيم له، وهذا الأمر ليس قاصراً على مكان أو زمان، بل هو ما جبل عليه الإنسان منذ خليقته؛ حيث الاختيار الذي يتبعه تحمل للمسؤولية؛ لذا ارتبطت الحقوق بالواجبات والمسؤوليات ليستمتع بها الإنسان ولا يطغى فيها طرف على حساب طرف أخر.
وتعشق الطبيعة الإنسانية الأمن والأمان في مكنونها؛ لذا تناولت وثيقة الأخوة الإنسانية أهمية نشر السلام، والبدء في حل الصراعات بطرائق سلمية، وهذا المنطق يجانبه الإنصاف؛ فلا مجال للعنف حال تعقل الأمور وحلها وفق معايير العدالة والأخلاق الإنسانية، والسلام يؤدي لمزيد من النمو والنهضة للعالم بأسره؛ لتوافر مقومات البناء والإعمار والانشغال بما يبلي احتياجات الإنسان في الأرض، وتجاهل مسارات الصراع التي تتلوها حروب واقتتال مآله انهاك القوى والموارد المادية والبشرية، ويحد من الآمال والطموحات لأجيال لها حق العيش في مستقبل أضحى يحمل بين ثناياه الدمار والخراب المتلازمين.
واحترام الثقافات المختلفة والاعتراف بها وكذلك بالديانات المختلفة، وتقبل الأيديولوجيات المختلفة من النقاط الرئيسة التي تناولها وثيقة الأخوة باعتبار ذلك مطلب إنساني، ويشكل هذا الأمر أهمية قصور للاتزان بين بني البشر، فالعقيدة من الأمور التي لا مجال للمساس بها، واحترام الثقافات من قواعد اللياقة، وتقبل الايديولوجيات تعد بوابة التفاهم بين البشر رغم التباين؛ حيث الوقوف على القواسم المشتركة، ومن ثم تؤكد وثيقة الأخوة الإنسانية على ضرورة التخلي عن النزعات والقوميات التي تهتم بعنصرية أو طائفية؛ فالدين لله والأرض متسع للجميع.
وتحث وثيقة الأخوة باعتبارها مطلب إنساني على تعميم ونشر المعرفة باعتبارها عالمية وتشاركية بين بني البشر، وتداولها أمر منطقي؛ فلا مجال لاحتكارها، وهنا يتم التأكيد على تنمية الوعي لدى الإنسان باعتباره صانع للمعرفة وناقل لها عبر أدواتها المعروفة بأن ينبذ الثقافات القومية التي تدعو لشريحة واحدة من الإنسانية متناسية الإنسانية جمعاء.
وتؤكد وثيقة الأخوة باعتبارها مطلب إنساني على العناية بالشؤون الدولية، وامتلاك الوعي بالآلية التي يعمل بها العالم سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وتقنياً وبيئياً، والقناعة بأن الإنسانية تتخطى الحواجز السياسية والعرقية والثقافية التي قد تحول دون تآخيهم وتعاونهم، واحترام التنوع الثقافي، والمساهمة في إزالة الظلم الاجتماعي، ونبذ الإرهاب بأنماطه المختلفة، مع الإيمان التام بأن الإنسانية هي الرابط الذي يشد الناس لبعضهم البعض، ويعضد من علاقاتهم.
حفظ الله جمهوريتنا الجديدة وقيادتها السياسية العزيزة ورموزها الدينية التي تحرص على تفعيل وثيقة الأخوة الإنسانية، ونسأل العلي القدير أن يملئ قلوب الإنسانية جمعاء بالمحبة والوئام والسلام.