مفهوم "التنمية المستدامة"، ربما ليس جديدا تماما، فقد خرج إلى النور منذ عقود، ليعتمد نهجا قائما على الربط بين الأوضاع الاقتصادية، والجوانب السياسية وحقوق الإنسان، والمعايير البيئية والمجتمعية، بحيث لا تقتصر التنمية على معدلات النمو في اللحظة الراهنة، وإنما تمتد إلى العمل على ضمان استمراريتها، لحماية حقوق الأجيال القادمة، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حالة شاملة من الاستقرار، في مختلف صورها، على النحو سالف الذكر، بحيث لا يطغى جانب على الأخر، في إطار يبدو مترابطا، يقدم في نهاية المطاف صورة لما يمكننا تسميته بـ"حياة نموذجية"، للمجتمع بأسره.
ولعل شمولية المفهوم تمثل انعكاسا لتعددية المسارات التنموية، حيث لم يعد المؤشر التنموي للدول مرهون بأرقام صماء، في خانة "النمو الاقتصادي"، وإنما بالقدرة على الاحتفاظ بها للأجيال الجديدة، عبر مجتمعات مستقرة سياسيا واقتصاديًا واجتماعيا، وثقافيا، وحقوقيا، وهو الأمر الذي يفتح مساحة كبيرة من المرونة أمام كل دولة لتحقيق تلك الأهداف طبقا لظروفها، وطبيعة التحديات التي تواجهها، وبالتالي يصبح من المستحيل تصدير نماذج "معلبة" لتحقيق "التنمية المستدامة"، في ظل اختلاف الظروف الأمنية والإمكانات الاقتصادية وطبيعة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وثقافاتها وإدراكها لحجم التحديات التي تواجهها.
وهنا تبدو معضلة الانتقال من الجانب النظري للمفهوم إلى التطبيق العملي، في تبني المجتمع الدولي لأفكار ربما نجحت في تحقيق الجانب المستدام، في دول، باعتبارها منسجمة مع إمكاناتها وأفكار شعوبها، وظروفهم الأمنية والسياسية، خاصة مع عدم قدرة دول أو مناطق جغرافية أخرى من العالم، تبني نفس الاستراتيجيات نظرا لاختلاف الظروف، أو باعتبارها غير مؤهلة، للدخول مباشرة، في أعماق المفهوم بأبعاده المتوازية، وبالتالي تبقى بحاجة إلى تأهيل البيئة لاستيعاب كافة المسارات، في إطار تعدديتها وتنوعها.
فلو نظرنا إلى النموذج المصري، باعتباره أحد أكثر النماذج الصاعدة، في هذا الإطار، ربما نجد أن ثمة ظروف وتحديات تزامنت مع انطلاق "الجمهورية الجديدة"، منها تفشي الإرهاب، والفوضى المحدقة بمنطقتها، ناهيك عن أوضاع اقتصادية متراجعة في أعقاب سنوات "الربيع العربي"، وبالتالي كان العمل على كافة المستويات ضرورة ملحة، عبر مشروعات عملاقة من شأنها تحقيق النمو الاقتصادي، مع مراعاة الجانب البيئي، والاهتمام بالعملية التعليمية، ثم تفعيل الجانب المجتمعي مع تصعيد الفئات المهمشة، كالشباب والمرأة وذوى الهمم، مع تدشين مبادرة "حياة كريمة"، لحماية الفئة محدودة الدخل في المجتمع، في إطار متواكب مع رؤية حقوقية متوازنة، بعيدا عن الرؤى المسيسة التي طالما تبناها المنظرون في الغرب، مع إطلاق حملات توعوية تهدف إلى توسيع دائرة الإدراك المجتمعي للظروف والتحديات التي تواجه الدولة.
الرؤية المصرية، في تطبيق مفهوم "الاستدامة"، لم تقتصر على تحقيق التنمية، في الداخل، وإنما سعت إلى تعميمها في مناطقها الجغرافية، في إطار إقليمي، عبر الدفاع عن حقوق الدول الأخرى، التي تعاني ظروفا صعبة، مع تقديم خبراتها لتحقيق طفرات تنموية بها، وهو ما بدا مؤخرا في المشاركة المصرية الفعالة في بناء سد تنزانيا الكبير، والذي سيحقق ققزة كبيرة في إنتاج الطاقة الكهرومائية في الدولة الإفريقية، والاحتفاظ بحقوق شعوب القارة في حياة أفضل في المستقبل، وهو ما يعكس إدراكا مصريا بأن العملية التنموية في صورتها المستدامة، لم تعد قائمة على البعد التنافسي بين الدول، وإنما باتت تحمل أبعادا تكاملية، خاصة مع تواتر الأزمات التي تتجاوز الزمن والجغرافيا واستحالة التعامل معها من قبل كل دولة على حدة مهما بلغت الإمكانات.
المفهوم المستدام، من وجهة النظر المصرية، قدم بعدا جديدا يعتمد في الأساس نهجا يبدو متواكبا مع تعددية مساراته وتنوعها، بينما أخذ في الاعتبار ظروف الداخل المصري أو في النطاق الإقليمي، ليخلق مساحة كبيرة من المرونة، فيما يتعلق بالجانب العملي، بحيث لا يصبح التطبيق مختلفا بحسب المعطيات المتاحة داخليا وإقليميا.
ويعد حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن قانون الأحوال الشخصية الجديد، يحمل في طياته، بعدا مهما من شأنه تحقيق التماسك الاجتماعي، في إطار الاستدامة، عبر تقديم غطاء من الحماية لحياة ملايين الأطفال، وهم جوهر اهتمام الدولة، باعتبارهم الجيل الجديد المستهدف من العملية التنموية، والذين عانوا كثيرا جراء التفكك الأسرى وتفشي الطلاق في سن مبكر، وهو ما يتماهى مع الرؤية المصرية لتحقيق "الاستدامة"، حيث يمثل وجها جديدا لـ"الحماية الاجتماعية"، والتي شملت بعدا اقتصاديا تجسد في العديد من القرارات الاقتصادية، التي اتخذتها الدولة طيلة السنوات الماضية، ليصبح هذا القانون بمثابة أحد الوجوه المجتمعية، لتحقيق التنمية.
وهنا يمكننا القول بأن غطاء "الحماية الاجتماعية"، بات ممتدا، ليشمل، ليس فقط تحسين الظروف الاقتصادية لملايين الأسر، وإنما أيضا ضمان الاستقرار الأسري، والذي من شأنه تحقيق الاستقرار المجتمعي بصورته الكلية، مما يساهم تعزيز الجانب الاجتماعي باعتباره أحد أركان "التنمية المستدامة"، والتي تمثل الهدف الرئيسي من وراء الجهود المبذولة من قبل "الجمهورية الجديدة"، لضمان حقوق الأجيال القادمة في حياة كريمة ومستقبل أفضل.