التحول الدولي نحو "التفاوض الخشن"، ربما أصبح بمثابة ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، لتهدئة وتيرة الصراعات الدولية، سواء بصورتها الفردية، بين الدول، أو على المستوى العالمي الجماعي، وما يتخلله من منافسات إقليمية، وهو ما يخلق أدوار دولية جديدة، لأطراف تبدو بعيدة، ولو نسبيا، عن دائرة الصراع، بحسب قدرتها على تحقيق أكبر قدر من المرونة في التعامل مع المتغيرات الدولية، حتى وإن كانت محسوبة على معسكر بعينه، عبر تبني مواقف تحمل قدرا من الموضوعية، من شأنها تقديم حلول فعالة للأزمات، تحظى بثقة الأطراف المتصارعة، حتى تتمكن من القيام بدور "وسيط" موثوق" به لتحقيق اختراقات كبيرة في المفاوضات الصعبة.
وللحقيقة فإن مفهوم "الوساطة" الدولية ليس جديدا في جوهره، في إطار العلاقات الدولية، إلا أن مؤهلات القيام بهذا الدور باتت مختلفة تماما عن الماضي القريب، فلو نظرنا إلى العديد من الصراعات، في العقود الماضية، نجد أن ثمة "وسطاء" لم يتحلوا بالحيادية أو الموضوعية المطلوبة، بحكم الظروف الدولية، والتي تجسدت في محدودية الأدوار الدولية، في ظل حقبة من الهيمنة الأحادية التي سيطرت فيها قوى واحدة على مقاليد الأمور العالمية، وبالتالي كانت تحمل القدر الأكبر من التأثير، ليصبح وجودها، أو وجود من تخوله "ضمانة" رئيسية لتحقيق قدر من التوازن، رغم مواقفها المنحازة لأطراف بعينها، حيث يصبح قبولها كـ"وسيط"، لزاما على الأطراف الأخرى، حتى تضع على كاهلها التزاما أخلاقيا، بالضغط على حلفائها، لتقديم تنازلات في العملية التفاوضية، وهو ما يبدو، على سبيل المثال، في القبول بالولايات المتحدة، كوسيط، في الصراع العربي الإسرائيلي، رغم مواقف واشنطن المنحازة، والمعروفة للقاصي والداني، وهو ما أسفر في نهاية المطاف، عن تجميد عملية السلام، لتتحول إلى حلقات متقطعة من الصراع والهدنة، دون وصول إلى حلول فعلية على الأرض.
إلا أن التغيير الكبير في المشهد الدولي، جراء صعود الدور الذي تقوم به قوى جديدة، أضفى أدوار جديدة، يمكن القيام بها، في إطار عملية "الوساطة"، مع تصاعد الأزمات، وفقدان الثقة في قدرة طرف واحد على تقديم حلول فعلية، ليتجلى في الأفق دور جديد، على الساحة العالمية، وهو "الضامن" الدولي، وهو الطرف الذي من شأنه تحقيق الجدية في عملية "الوساطة"، بين الأطراف المتنازعة دوليا، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته في العقد الماضي، خلال عملية تفاوض مارثونية، بين الولايات المتحدة وإيران، والتي سبقت التوقيع على الاتفاق النووى، في عام 2015، حيث تجاوز الصيغة الثنائية، بين طرفي الصراع (واشنطن وطهران)، إلى صورة أكثر اتساعا وامتدادا، في إطار وجود أطراف أخرى من الدول الداعمة لكلا الجانبين، على غرار ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، باعتبارهما حلفاء أمريكا، والصين وروسيا، وهما الأكثر ميلا لإيران، وهو ما يحقق قدرا من التوازن في العملية التفاوضية، ناهيك عن وجود أطراف دولية "ضامنة" لتطبيق الالتزامات التي تعهد بها كل طرف من طرفي الصراع، كما أنه يضفي قدرا من الشرعية الدولية، خاصة مع تضمين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى الاتحاد الاوروبي، كأطراف في الاتفاق،
المشهد الإيراني يعد بمثابة أحد أهم نقاط الانطلاق نحو حقبة جديدة من النظام الدولي، حيث يمثل تراجعا ملحوظا في حالة التفرد الأمريكي، في ظل وجود أطراف أخرى، بعضها في خانة "الخصم"، للولايات المتحدة، ناهيك عن كونه خروج ضمني، ولو على استحياء، عن الشرعية الأممية، في ظل فشل كافة المحاولات السابقة داخل أروقة الأمم المتحدة في حل الأزمة أو الوصول إلى اتفاقات مرضية بشأنها، ليكتفي أطراف الصراع بـ"تمثيل مشرف"، في صورة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، وهو ما ساهم في نجاح مرحلى للعملية التفاوضية، أسفرت في إبرام الاتفاق، بعد سنوات من الصراع.
ولعل النموذج الإيراني، فيما يتعلق باستحداث دور "الضامن"، في العلاقات الدولية لم يكتب له نجاحا طويل المدى، في ظل العديد من المستجدات التي طرأت على المشهد، أبرزها صعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ليعلن الانسحاب من الاتفاقية من طرف واحد، مع السعي لإبرام اتفاق جديد، بعيدا عن أوروبا، وهو ما يرجع في جزء منه لرؤية الإدارة السابقة لـ"الضمان" الأوروبي باعتباره انتقاصا من شأن واشنطن، بالإضافة إلى إمكانية تحوله إلى "سنة" دولية من شأنها تراجع الثقة في الولايات المتحدة لصالح القارة العجوز، وهو ما يبدو في التزامن بين الانسحاب من الاتفاقية النووية مع طهران من جانب، والتحرك الفردى للتقارب مع كوريا الشمالية، بعيدا عن "الوسطاء" الأوروبيين من جانب أخر، ناهيك عن التحرك الأمريكي الحثيث لتفكيك الاتحاد الأوروبي، من بوابة الخروج البريطاني، ودعم اليمين المتطرف في دول القارة، والتي تحولت فجأة، من وجهة نظر واشنطن، من خانة الحليف إلى المنافس، من جانب ثالث.
ولكن توجهات واشنطن، لتقويض دور القوى التي يمكنها القيام بدور "الضامن" الدولي، خارج دائرتها، لم تحقق النجاح المرجو، مع تصاعد دور منافسيها، عبر توسيع دوائر نفوذهم على غرار الصين وروسيا، لتمتد إلى مناطق بعيدة عنهم جغرافيا، سواء في إفريقيا أو الشرق الأوسط، وحتى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا، وهي مناطق تمثل عمقا استراتيجيا لواشنطن، وإن كانت هناك ضرورة ملحة لتغيير طبيعة الدور، نحو مزيد من الموضوعية، بعيدا عن حالة الاستقطاب التي شهدها الاتفاق النووى، بين المواقف التي تتبناها الأطراف المشاركة، بالإضافة إلى تغير طبيعة الأزمات، وتداعياتها الممتدة، لتصبح هناك ضرورة ملحة لوجود أطراف "ضامنة"، ذات توجهات موضوعية تحمل قدرا من الحيادية، لإضفاء المصداقية لما يمكن التوصل إليه من اتفاقات بين مختلف الأطراف الدولية، بالإضافة إلى امتلاكها ما يؤهلها للقيام بدور أكبر فيما يتعلق بالأزمات المستحدثة وطبيعتها الجديدة.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة باتت ملحة في المرحلة الراهنة، للتحول من دور "الوسيط" الدولي، إلى "الضامن"، عبر أطراف من شأنها تجاوز القيادة الدولية، في صورتها التقليدية، عبر القيام بدور أكبر من شأنه تقديم "ضمانات" لتحقيق ما يمكن التوصل إليه من اتفاقات فردية أو جماعية، لحل الأزمات الراهنة، والتي باتت تحمل في طياتها أبعادا عالمية تتجاوز اطرافها الدولية والإقليمية، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية وظاهرة التغيرات المناخية، والتي تمثل نماذج مستحدثة، للطبيعة الجديدة للأزمات الدولية.