الوعى الإعلامى بطبيعة الأزمات الاقتصادية التى يشهدها العالم وتداعياتها على الشأن الداخلى المصري، وحالة الأسواق، ومستقبل الاقتصاد أمر فى غاية الأهمية، يحتاج إلى دراسة متأنية وخبرة بها قدر كبير من الاحتراف، خاصة أن أحد أهم الأدوار التى يجب أن يمارسها الإعلام فى الوقت الراهن تقديم معارف ومعلومات تسهم بصورة مباشرة فى تقليل تبعات الأزمة الاقتصادية وتحجيم تأثيراتها على المجتمع فى الفترة المقبلة.
لا أشك لحظة واحدة فى أن المواد الصحفية والإعلامية الجذابة المدققة المملوءة بالتفاصيل تحظى بمتابعة كبيرة من الجمهور وتعتبر مصدرا مهما لجذب القارئ، بديلاً عن "الترافيك الحرام"، الذى يأتى من أخبار اختفاء "السلعة الفلانية" و "الأسعار ولعت"، أو زيادة 100% فى العام الجديد فى عشرات الخدمات، وكل ما ينذر بمخاطر ومشكلات فى السوق خلال المستقبل القريب، لذلك يجب أن تتحلى وسائل الإعلام بالضمير أولاً قبل المهنية والسبق، بصورة لا تنال من حقها الأصيل فى نشر الأخبار.
وحتى نفهم الصورة بطريقة أفضل علينا وضع مجموعة من القواعد، يجب أن تعتبرها وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها، تبدأ من أن الإعلان عن أسعار السلع ليس مسئولية الصحف والمواقع الإلكترونية، حتى وإن كان من باب خدمة القارئ أو المشاهد، خاصة إن كانت هذه الأسعار يتم جمعها عن طريق أصحاب المصالح، ويروج لها التاجر أو البائع، فلا توجد تسعيرة جبرية، كما كان الأمر فى الماضى لنعلن عنها، بل إن السوق حرة، وتحكمها آليات العرض والطلب، لذلك يجب أن تتخلى وسائل الإعلام عن بورصة المضاربة على أسعار السلع، وأن تتوقف عن توجيه السوق بقصد أو بدون.
ليس من الإنصاف أن تتحدث بعض وسائل الإعلام عن نفاد المعروض من سلع بعينها أو نقص المعروض منها، أو غيابها من الأسواق، لمجرد بيان من تاجر أو منتج أو رجل أعمال أو صاحب مصلحة، كأن يكون عضواً فى غرفة تجارية أو صناعية، فهذه الأخبار يتم الترويج لها من باب الضغط والرغبة فى الصعود بالأسعار وتحقيق مكاسب ورفع حجم الطلب على السلعة، دون مراعاة تأثيرات ذلك على المجتمع، وهذا يحدث الآن مع سلع عديدة، خاصة الغذائية الأساسية، التى تعتبر معيار أساسى فى قياس التضخم.
فى فترات الأزمات الاقتصادية يجب أن يكون للإعلام دور إيجابى ناحية المجتمع، وأن يصبح دائماً فى صف المستهلك أو المواطن باعتباره الهدف النهائى أو الجمهور العريض الذى تخاطبه وسائل الإعلام، إلى جانب تقليل مستوى الضجيج حول الأسعار ووفرة السلع فهذا الأمر يسهم بصورة مباشرة فى ضبط السوق وتهدئة المستهلك وطمأنة المواطن بأن الأمور تسير فى نصابها الطبيعى دون مشاكل أو أزمات، والتوقف عن إثارة حالة من القلق حول اختفاء سلع بعينها، فهذا أمر من صميم الأمن القومي، خاصة أن كانت السلعة استراتيجية وكثيفة الاستخدام ولا يمكن الاستغناء عنها.
أحد الأخطاء التى تقع فيها بعض وسائل الإعلام ترتبط بدعوة الناس إلى التقشف أو الامتناع عن شراء سلع بعينها، وهذا أمر لا يجب الترويج له، خاصة أن المستهلك لا يقبل هذا السلوك ويتحول رد فعله إلى النقمة والامتعاض، فما لا يقدر الإعلامى أو صاحب الرسالة الإعلامية على تطبيقه بشكل شخصى على نفسه لا يجب أن ينصح الناس بتطبيقه، لكن قد يكون الأمر مقبولاً إذا ما تمت دعوة الناس إلى ترشيد الاستهلاك وضبطه بصورة منظمة، ونماذج تطبيقية عن طريق خبراء ومتخصصين، فهذا ما نحتاج إليه فى الوقت الراهن.
يجب أن يرصد الإعلام فى تقاريره معلومات وحقائق حول أن الدولة ليست ملزمة لتدبير العملة الصعبة لسلع لا يحتاجها الناس، من عينة البضائع التى نراها فى محلات "أى حاجة بـ 2.5" فهذه المنتجات ليست أكثر من "زبالة العالم"، يتم شراؤها بالعملة الصعبة، وإذا استمر أصحابها فى الإصرار على استكمال نشاطها فعليهم أن يدبروا العملة اللازمة لها، ما داموا يحققون مكاسب تصل إلى 300% أو يزيد.
قرار ات قطاع البنوك الأخيرة المتعلقة بالعملة الصعبة وحجم الإنفاق من كروت الائتمان فى خارج مصر صحيحة وتحتاج من الإعلام إلى الدعم والمساندة وتوضيح الأسباب التى دفعت البنوك لتطبيقها، فالبعض كان يذهب إلى عدد من الدول العربية القريبة ومعه العشرات من كروت الائتمان للأصحاب والأقارب، ربما الزبائن، ويحول أموالهم إلى العملة الصعبة، وهذا أمر استنزف الموارد الدولارية للبنوك بصورة شرسة خلال الفترة الماضية، كما أن البعض الآخر كان يشترى مصوغات ومشغولات ذهبية من دول الخليج ويدخل بها إلى المطارات باعتبارها من وسائل الزينة المسموح بها، وهذا أيضا باب كبير لإهدار العملة الصعبة، وسبب جعل البنوك تضع قيود كبيرة على إجراءات الصرف فى الخارج.
بالفعل يمكن الجزم أن الطبقة المتوسطة أو بمعنى أدق "الموظفين" حتى وإن كانوا من أصحاب المناصب العليا هم المتضرر الأول من فاتورة الأزمة الاقتصادية الراهنة، وأول من يدفع تكلفتها، لكن يجب أن تكون فئة رجال الأعمال والتجار والصناع والحرفيين أكثر حرصاً وذكاء فى التعامل مع الأزمة الراهنة، ويقللوا مكاسبهم أو يصلوا بها إلى الحدود المعقولة، حتى لا ندخل فى دائرة الركود التضخمى وعدم القدرة على شراء السلع والمنتجات نتيجة ارتفاع أسعارها، ما يترتب عليه إحجام عن الشراء وتراجع فى مستويات الطلب، لنصل فى النهاية إلى ركود ممتد، ربما كساد يعصف بالأخضر واليابس.
تفعيل الرقابة على الأسواق خلال الفترة المقبلة والمتابعة الدائمة لها أمر فى غاية الأهمية، وعلى وسائل الإعلام أن تركز عليه وتضعه دائماً فى اعتباراتها، فالموضوع ليس مجرد حملات وصحوات مؤقتة تستمر لأيام أو أسابيع وسرعان ما يتراجع تأثيرها على الأسواق، لكن الأهم هو "استدامة الرقابة"، حتى لا تتحول الأسواق إلى ساحات للجشع والاستغلال، ولعل ما حدث مؤخراً فى سوق الذهب نموذجاً فقد ظل التجار يتلاعبون بأسعاره ويبيعون على سعر دولار يزيد 40% عن المعلن فى البنوك، وهذا بالطبع أسهم فى عودة ظاهرة الدولرة والسوق الموازية، لذلك على الحكومة أن تبحث عن أصحاب المصالح، وعلى الإعلام أن يتوقف عن نشر أخبارهم.
فى الأزمات العالمية العاتية لو لم نركن إلى ضمائرنا ونتضامن ونتكافل من أجل التخطى والعبور إلى الأمام، فلا تحدثنى عن رابحين وخاسرين، فالكل حينها خاسر، فلا تتصور أن بضعة آلاف من الدولارت أو جرامات الذهب التى اتجهت إليها ستجعلك آمن وبعيد عن المخاطر، بل بالعكس ستحصد جنى ما غرست، ومهما كان ما جمعت لن يمنحك طمأنينة، أو يحقق لك اكتفاء، فالكل سيدفع الثمن.