يبدو أن الاختلاف، الذي باتت تفرضه المستجدات الدولية، في اللحظة الراهنة، على مفهوم "الوساطة" الدولية، لم تعد قاصرة على طبيعة الدور، وضرورة تحول القوى القادرة على القيام بهذا الدور، من مجرد وسيط بين أطراف الصراع، إلى طرف يمكنه تقديم ضمانات حقيقية، فيما يتعلق بتحقيق ما يمكن التوصل إليه من اتفاقات، في ظل الطبيعة الخشنة التي سوف تتسم بها المراحل القادمة من عمر الصراعات القائمة، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، وهو ما ساهم في بزوغ قوى دولية جديدة، على غرار الصين، والتي استطاعت الاحتفاظ بقدر كبير من التوازن، في علاقاتها مع محيطها الدولي، لتتجاوز في نفوذها القيادة الدولية بمعناها التقليدي، والقائم على فرض رؤيتها على محيطها الدولي، عبر التقارب مع مختلف أطراف المعادلة الدولية، ومن ثم تحقيق اختراقات كبيرة في تجاوز الأزمات الراهنة.
ولكن بعيدا عن الأزمة الأوكرانية، والتي تمثل امتدادا للصراع الدولي التقليدي بين الشرق والغرب، والدور الصيني المرتقب، وهو ما أسهبت في الحديث عنه في مقالي السابق، ثمة أزمات دولية تبدو جديدة تماما، على غرار حالة "الصراع مع الطبيعة"، في ظل ظاهرة التغيرات المناخية، وتفشي الأوبئة، والتي كشفت حالة من التباعد بين دول العالم، في ظل انقسامات كبيرة حول الكيفية التي يمكن التعامل بها، لاحتواء الأوضاع الدولية الراهنة، وهو ما يمثل خطورة كبيرة ليس على دولة أو منطقة بعينها، وإنما على الكوكب بأسره، وهو ما يضفي طبيعة جديدة لدور "الوسيط"، ليتجاوز الصراع بين دولتين أو معسكرين متناحرين، إلى نطاق إقليمي أكبر، عبر القوى الإقليمية المؤثرة في كل منطقة جغرافية، والتي من شأنها تبني مواقف موحدة، في مناطقها، تجاه مثل هذه القضايا، مع تقديم الضمانات حول التزامها بالمعايير المطلوبة للوصول إلى حلول في مناطقها، جنبا إلى جنب مع التفاوض باسمها، مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى، حول ضرورة الإحتفاظ بحقوقهم، فيما يتعلق بالتنمية والاستقرار.
فلو نظرنا إلى قضية المناخ، باعتبارها أحد أكثر الأزمات المستحدثة بزوغا على الساحة الدولية، نجد أن مصر تمثل نموذجا مهما للدور الجديد يمكننا تسميته بـ"الوسيط" الإقليمي، وهو ما بدا بوضوح إبان القمة التي عقدت في شرم الشيخ في شهر نوفمبر الماضي، وما قبلها، حيث نجحت في الحديث أمام العالم باسم محيطها القاري والإقليمي، والدفاع عن حقوقه التنموية، وأحقيته في الحصول على تعويض بعدما لحق دوله من تجريف، بسبب جموح طموحات الدول الكبرى، والتي دأبت على استنزاف الموارد هنا أو هناك، دون مراعاة لمستقبل الشعوب، التي قبعت في الفقر لعقود، أو حتى لثورة الطبيعة، التي ضجرت من الاستخدام غير المسؤول للموارد.
ولعل نجاح مصر في القيام بدور "الوسيط" الإقليمي، يرجع في جزء كبير منه إلى خبراتها الدبلوماسية الكبيرة، وموقعها المتميز، كنقطة اتصال إقليمي، ناهيك عن تحركاتها الدؤوبة طيلة السنوات الماضية لتحقيق التقارب بين مختلف الأقاليم، انطلاقا من إفريقيا، مرورا بالشرق الأوسط، وحتى أوروبا، نحو آسيا، عبر العديد من الشراكات، التي انطلقت في نطاق ضيق، لتتسع بعد ذلك، لتتجاوز الجغرافيا الضيقة نحو العالمية، على غرار العديد من منتدى غاز شرق المتوسط، والذي انطلق من الشراكة الثلاثية مع اليونان وقبرص، ليتسع ويشمل العديد من الدول، من مختلف مناطق العالم، وكذلك مؤتمر بغداد، والذي بدأ بشراكة مع كلا من العراق والأردن، ليتحول إلى منتدى إقليمي بمفهومه الأوسع.
إلا أن مؤهلات الدولة المصرية للقيام بالدور المستحدث، لا تقتصر على قدرتها الدبلوماسية العملاقة، وإنما امتدت إلى نجاحها في تقديم نفسها كنموذج لمنطقتها، في إطار الالتزام بالمعايير البيئية في مشروعاتها العملاقة، والتي تهدف في الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، وهو ما يؤهلها لتعميم، تجربتها، ليتحول هذا النجاح إلى "ضمانة" عملية، إلى جانب ثقلها الدبلوماسي، لإمكانية تحقيق طفرة فيما يتعلق بالقضية المناخية، في دول العالم النامي، شريطة التزام الدول المتقدمة بتقديم الدعم المطلوب لهم، في إطار المصالح المشتركة، والتي تتجسد، في حماية الكوكب من المخاطر المحدقة به في اللحظة الراهنة، خاصة مع التداعيات الكبيرة التي تشهدها مختلف المناطق جراء تفاقم الأزمة، بين حرائق تلتهم مساحات واسعة من الأراضي، وفيضانات تأكل الأخضر واليابس، في السنوات الماضية.
وفي الواقع، يبدو تدشين صندوق الخسائر والأضرار خلال قمة المناخ الأخيرة، بمثابة دليلا دامغا على نجاح مصر في القيام بدورها كـ"وسيط" إقليمي، عبر مارثون من المفاوضات، قدمت فيه الدولة المصرية "الضمانات" المطلوبة حول قدرة منطقتها على مواكبة المعايير البيئية المطلوبة، عبر تقديم نفسها كنموذج في هذا الإطار، بينما استغلت ثقلها الدبلوماسي لتحويل حالة "الصراع"، بين الدول المتقدمة والنامية إلى تعاون، من خلال إطلاق منتدى الهيدروجين الاخضر مع بلجيكا، والتي تعد عاصمة الاتحاد الأوروبي، ليكون لبنة مهمة للتكامل الدولي، بين مختلف الأقاليم، في إطار اعتماد الطاقة النظيفة، بدلا من الوقود الأحفوري مع تنامي أزمة الطاقة، والتي تجلت في أبهى صورها مع اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وهنا يمكننا القول بأن "الوساطة" الإقليمية، تمثل صورة جديدة للمفهوم، والذي بات لا يعتمد على مجرد النفوذ، ولم يعد مقتصرا على هيمنة قوى بعينها، وإنما أصبح مرتبطا بالمرونة التي تحظى بها الدولة، سواء في موقفها من القضايا الدولية، أو في التعامل مع الأزمات، عبر تقديم ضمانات حقيقية من شأنها تحويل حالة الصراع إلى تعاون أو تكامل لتحقيق الانطلاق نحو تقديم حلول طويلة المدى للأزمات القائمة.