على غرار المقولة الشهيرة التى أطلقها الناقد الكبير دكتور جابر عصفور، حين قال: نحن نعيش زمن الرواية، وما صاحبه من احتفاء بالروايات دون بقية الأجناس الأدبية الأخرى من الشعر والقصة القصيرة والمسرحية، حتى تحول كثير من الشعراء لكتابة الرواية فيما يشبه ظاهرة مواسم الهجرة الجماعية عند الطيور ، فهل نحن نعيش حاليا زمن المسلسلات القصيرة على حساب الأفلام والمسلسلات الطويلة السوب أوبرا، خاصة ونحن نرى هجرة مخرجين سينمائيين كبار بثقل تارنتينو لتقديم مسلسلات قصيرة مدعومة بقوة من المنصات الرقمية.
الظاهرة ليست جديدة لكنها أصبحت جلية عقب تفشى الوباء العالمى كوفيد 19، والذى أرغم الجميع على أن يلزموا منازلهم، مما خلق فراغا كبيرا ملأته المنصات الرقمية وتضاعفت فى ذلك الوقت أعداد المشتركين بها بشكل خرافى، وغابت دور السينما لتحل محلها مشاهدة محتوى المنصات التى استغلت هذا الفزع الإنسانى العالمى المصحوب بالفراغ لملأه بدراما تنوعت وكثرت وأصبحت تلبى مزاج المشتركين بها والذى ينتمى معظمهم لفئة الشباب.
شكلت دراما المنصات الرقمیة حجر الزاوية فى التغییر فى عادات وأنماط وسیاق المشاهدة، أو شیوع نمط المشاهدة الكثیفة، حیث لم تغیر الرقمنة فقط وسیلة عرض الأعمال الدرامية من شاشات التليفزیون والسينما والمسرح، إنما خلقت الخوف من شعور فقدان متابعة شيء ما مما يجعل المشاهد لا يستطيع أن يقوم قبل أن ينهى المسلسل القصير بحلقاته كلها دفعة واحدة، فلا يحتاج مشاهدها أن ينتظر 24 ساعة كاملة كما كان ينتظر مشاهد ليالى الحلمية ولا رأفت الهجان، لكى يعرف ما سوف يحدث فى حلقة الغد، ولكى تضمن المنصات مشاهدة حلقات المسلسل القصير دفعة واحدة خلقت ما يمكن تسميته بـ"ملذات السرد المعقدة"، والذى يجعلك فى متاهة سردية لا تريد الخروج منها قبل أن تفهمها ولا سبيل لذلك إلا بمشاهدة المسلسل القصير كله على وان شوت.
وذلك استدعى أن يكون مستوى التعقید فى السرد والشخصیات الغامضة للمسلسل الديجتال كبيرا جدا، وهو ما بجذب الجماهیر إلى التجربة الغامرة للمشاهدة الشرهة، حیث تتطلب المشاهدة المكثفة للمسلسلات المعروضة عبر المنصات.
يبقى السؤال: "هل نعيش تسونامى المسلسلات القصيرة والمنصات الرقمية"، الأرقام تخبرنا بأن عدد سكان الوطن العربى تجاوز 450 مليون عربى 70 بالمائة منهم شباب، وعدد المشتركين بالمنصات لا يوازى إلا نسبة ضئيلة جدا منهم، ومعنى هذا أن هذا السوق لا يزال أمامه الكثير ليصبح مسيطرا مثل التليفزيون التقليدى الذى يقدم الخدمة مجانية، لكن غياب نجوم كبار بحجم محمود عبد العزيز ونور الشريف وعادل إمام عن الدراما التليفزيونية ترك فيها فراغا كبيرا لم يفلح فى ملئه أحد، كما أن مزاحمة الإعلانات للدراما التليفزيونية جعل مشاهدى التليفزيون يتململون ويشعرون بأنهم المستهدفون كسلعة تحقيقا للمقولة الرائجة حين تكون الخدمة والسلعة مجانية فاعلم أنك أنت السلعة.. وكأن التليفزيون يقول لمتابعيه شاهد وأنت ساكت فالخدمة مجانية.
فهل يأتى وقت تشترى فيه المسلسل التليفزيونى أو الفيلم على حدة من خلال منصات لبيعه كما هو حادث مع الملابس والأحذية والهواتف المحمولة، وهل سيصبح من مصادر التفاخر بأن تقول مثلا لقد اشتريت سيزون كامل من المسلسل الفلانى، فيدل ذلك على وجاهة ما.. ويصير ساعتها البيع فردى للمشاهد وليس لمنصات.
مشكلة دراما المنصات هى تعزيز الشعور بالفرجة الفردية، ففى السينما المشاهدة جماعية مع اسرة كبيرة هى جمهور صالة العرض حتى أن حالة الضحك على إفيه تكون بالعدوى أو ضحكة جماعية والمشاهدة التليفزيونية تكون غالبا فى وسط أسرتك الصغيرة، بتعليقات مختلفة مثل الأم التى قد تنفعل على الشرير فيجعلك ذلك تضحك على غرار المشهد الشهير فى فيلم الناظر سأقتلك فترد الأم جواهر: "ما هو ندل ويعملها".
دراما المنصات تعزز الشعور بالفردانية فغالبا ما تشاهد هذه الأعمال بشكل فردى وانتقائى وغالبا ما يسبح مشاهدها مع أحداث المسلسل حلقة تلو الأخرى، حتى ينفصل تدريجيا عن واقعه المعاش ليدخل واقعه المتخيل، لكنها فرصة فى ذات الوقت لخلق قيم والتأكيد عليها لأن المشاهد الذى يعكف على متابعة 7 حلقات أو عشرة متتالية يكون عقله فى حالة سيولة وقابل لتمرير أفكار، وأرى أن هذه فرصة لتقديم أعمال تنويرية تسهم فى تشكيل هذه العقول السائلة.
طبقا لنظرية الأنساق المتسقة نحن نعيش زمن الـ140 حرفا تغريدة على تويتر، لذلك لا نستطيع أن نعزل الدراما عن واقعنا الإلكترونى وليس الافتراضى، لأنه صار حقيقة فالمسلسل القصير يتسق مع نمط حياة أشبه بالبوست اليومى على فيس بوك أو التغريدة على تويتر، لكن يظل هذا الأمر شكليا فقط، فالأمر لا يتعلق بطول ولا بقصر ولا عدد حلقات المسلسل.. الأمر يتعلق بالجودة وقماشة الحكاية أو كما يقول روبرت مكى فى كتابه القصة story is king.
لكن هل هذا يتوافق مع خطاب نهاية عصر التلفزيون الذى يطلقه البعض، لا أظن ذلك، فهو خطاب شبيه بما قيل عند ظهور التليفزيون فقد أطلق البعض ساعتها مقولة خطاب نهاية عصر الإذاعة، وها نحن نرى الإذاعة باقية إلى الآن، فأنا أرى دورا تكامليا بين التليفزيون والمنصات فلكل جمهوره والعمل الجيد يفرض نفسه أى كانت وسيلة عرضه، كل ما يميز تجربة الدراما عبر المنصات هو أن الديجيتال بلاتفورم خلق حرية الاختيار والتخلص من إلحاح الإعلانات وما يستتبعه من فرض واقع الـ30 حلقة على الدراما التليفزيونية، ومن هنا باتت المنصات هى بمثابة الأم الحاضنة لهذا الفن الجديد وهو المسلسلات القصيرة، فى الحقيقة هو ليس فنا جديدا فقد قدمه التليفزيون المصرى والكويتى قديما حين كانت أعظم المسلسلات الدرامية لا تتجاوز الـ13 حلقة مثل الشهد والدموع وعائلة شلش وغيرها وأيضا السباعيات التى كانت تقدم، وهو أن يكون المسلسل فى 7 حلقات فقط، بل الأكثر من ذلك وهو ما كان يسمى بالسهرة التليفزيونية، حيث يقدم مسلسل لما يقرب من ساعتين أو أكثر دفعة واحدة، وحتى لا نظلم المبدعين فإن فكرة المسلسل الـ30 حلقة فكرة إعلانية بحتة وليس لها علاقة بالمبدعين.
بالنهاية صناعة الدراما لم يعد هدفها مجرد الترفيه والتسلية، فعلى القائمين عليها فهم دورها فى الاستيلاب على العقول السائلة، وتوجيه ذلك لما فيه خدمة أوطانهم وخدمة الإنسان.