" مِصْر تمتلكُ قوةً ناعمةً..أم كلثوم كانت أقوى فرقة فى كتيبة قوة عبد الناصر الناعمة"..من العبارات الخالدة للأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، الذى طالما تحدث عن القوة الناعمة وأهميتها فى السياسة الدولية.
ولمَن لا يعرف، فـ"القوةُ الناعمةُ" مصطلح صاغه جوزيف ناى البروفيسور بجامعة هارفارد فى كتابه "مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية"، الصادر عام 1990، ويُعنى القدرةَ على الجذب والإقناع دون إكراهِ، ثم أصبح هذا المفهوم ذراعًا مهمة من أذرعة السياسة الخارجية لأية دولة تُضيف إليها قوة معنوية بجانب قوتها العسكرية.
يُعد "الإعلام" شكلًا من أهم أشكال تلك القوة، شَريطة أن يُطور من أدواته لمواكبة العصر والظروف المحيطة التى يعمل فى إطارها، مُستندًا إلى العرض المنطقى مدعومًا بالأدلة والمعلومات ومشاهدات الواقع وشهود العيان كأبرز الأدوات لجعله إعلامًا مقنعًا مؤثرًا.
ولا يَختلف أحدُ على أهمية الدور الذى يَلعبه الإعلامُ، وتتعدد الأمثلة، علَّ أحدثها ما شاهدناه فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى، وكيف كانت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى أداة للسياسيين في تلك المعركة الانتخابية، كما كانت إحدى أدوات الحسم فى معارك الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ويمتدُ دور الإعلام إلى عدة محاور منها نقل نبض الشارع لصانعي القرار وبالتالى المساهمة فى صنعه، وتهيئة الرأى العام لاستيعاب تلك القرارات أيضًا، ومن جهة ثانية له دور فى تنمية المجتمع وبناء وعي أفراده، ومن بين أهم محاور تنمية الوعى تعزيز ثقافة قبول الاختلاف؛ ومن ثَمَّ خلق بيئة حاضنة لحوار ناضج بين مختلف الثقافات.
ومِما لا شَك فيه أنَّ هناك ارتباط وثيق أيضًا بين ما تبثه وسائل الإعلام من محتوى والصحة النفسية للمُتلقين؛ لذا فإن للإعلام بالغ الأثر على الشعوب، ومن هُنا أصبح أداةً مهمة من أدوات ما يُسمى"حُروب الجيل الخامس"، حيث يُستغل من قبل بعض الأطراف لبث سمومهم من خلال محاولة إشاعة الفتن الطائفية أو العرقية وتفريغ المجتمع من نسقه القيمى، وسلخ المواطنين عن موروثاتهم، وإعادة تشكيل ليس فقط مفاهيمهم السياسية بل والاجتماعية أيضًا، وبث الطاقة السلبية للتأثير على القدرة الإنتاجية للمجتمع.
كُل هذا حَتم إيجاد وسائل مماثلة لمناهضة مَعاولُ الهدم فى شكلها الجديد، ما تطلب استراتيجية إعلامية مُتكاملة مبنية على أسس واضحة، تَعمل على البناء ومقاومة التيارات المُغرضة أيًا كانت الجهات التى تقف وراءها.
هُنا..فى مساحةِ حرة وعلى وترِ مُختلف، تَعزفُ الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، مُستهدفًة ليس فقط بناء صحيح للوعى المجتمعى وأجيال الغد، بل استعراض الشخصية المصرية بملامحها الحقيقية الجميلة ومعالمها المميزة أمام الإقليم والعالم، مُذكرًة المواطن أيضا بعراقتها، فى وقت تستخدم فيه الأطراف المعادية للدولة المصرية قنوات ومنصات تواصل لتشويه تلك الشخصية، مُحاولين إعطاء قراءات خاطئة عنها.
على هذه الأرضية، أطلقت الشركة مسار المبادرات الاجتماعية، بالتوازى مع المسار الإعلامى، أبرز تلك المبادرات "أخلاقنا الجميلة"، " التوعية بمخاطر تعاطى المخدرات"، "مواجهة الشائعات"، "حياة كريمة"، و"نبته".
وفى سياق الاستراتيجية الإعلامية لإعادة بناء الوعى بأدوات ووسائل متنوعة، كان ميلاد القناة "الوثائقية"، مساء الأحد، ومن قبلها "القاهرة الإخبارية" فى نوفمبر الماضى المُكملة لعمل "إكسترا نيوز". هذا لم يأتِ مصادفًة أو مجرد إطلاق عشوائى لملء ساعات من البث، بل هو "مَشروع يقُود" بُنى على رؤية محددة أساسها الرَهان على الوعى، والإيمان بأن المعرفة الصحيحة هى حصن للإنسان يحميه من الانجراف باتجاهات خاطئة، واللقاح الفعال ضد فيروس الجَهل الفتاك، فكما قال الأستاذ الكبير هيكل، إن "عدم الفهم لم يخلق سوء الفهم فحسب، ولكن خلق ما هو أخطر"، ومن هنا أتت أهمية إطلاق هذه القنوات التليفزيونية.
دَعمت تلك الرؤية خُطة مُعدة إعدادًا جيدًا محددة الرسائل، معلومة الأدوات، عمودها الفقرى كوادر مُدربة، وخطوات علمية مدروسة، ومنهج عملى يتسق مع المعايير الدولية المعمول بها فى المؤسسات الإعلامية العالمية. وكل هذا من مُنطلق قناعة تامة بأن ما يجرى على الساحتين الإقليمية والدولية يقتضى إعادة تقديم رشيق للشخصية المصرية، بمكوناتها التاريخية والثقافية والفكرية والتراثية لمختلف الشعوب، فرُبما تشتت الصورة الذهنية الراسخة عن تلك الشخصية بأذهان البعض، أمام أمواج عاتية من القبح الإعلامى بشتى وسائله الموجهة نحوالعقول سواء من قِبل جماعات مثل الإخوان أو دول تريد إسقاط الصورة الذهنية الكلاسيكية عن مصر وشعبها، والتى طالما ميزته عمن سواه.
فى هذا المُناخ وُلدت قناة "القاهرة الإخبارية" فى أكتوبر الماضى، حاملًة شعار "الدقة والموضوعية" فى نقل الأخبار، لتُعبر عن طموح المواطن المصرى والعربي فى المعرفة بأدوات عصرية، تلك القناة التى ملأت فراغًا فى محور مهم وهو مخاطبة العالم والرأي العام العربى والدولي بلغة الصورة والمعلومة المجردة، فانفردت القناة برسالة ومحتوى وأداء مختلفين عن غيرها، ُمستهدفة تقديم الحقائق حول الملفات كافًة بما لا يترك مجالًا لنشر الأكاذيب والترويج للشائعات.
وإطلاع عين المشاهد المصرى على ما يجرى حوله إقليميًا ودوليًا بحيادية دون تهويل أو تهوين، وفى الوقت نفسه تقديم وجبة معلوماتية تنمى الوعى المعرفى لدى المشاهد. ثم جاءت القناة "الوثائقية" فى إطار قطاع كامل للإنتاج الوثائقى، لاستكمال مسيرة قد بدأت منذ أربع سنوات من خلال وحدة لإنتاج الأفلام الوثائقية، تَهدف لحفظ ذاكرة مصر وإعادة تقديم تاريخها فى ثوب جديد يتماشى مع روح العصر الحالى وأدواته، فنحن الأحق بكتابة تاريخنا والأقدر على كتابته.
تُمثل القناة نقلًة فى عالم صناعة الأفلام الوثائقية ليس على المستوى المحلى فقط بل، والإقليمى أيضًا، سواء من حيث قالب التقديم أو المحتوى المتنوع بين الأفلام التاريخية والعلمية والفنية وأيضا قصص الفلكلور الشعبى، إضافة لحصولها على حقوق بث أفلام وثائقية عالمية لتقديمها للمشاهد مجانًا، ومِن ثَم يحصل على وجبة معرفية متكاملة بامتياز.
نَحن بحاجة وجودية إلى إبراز الشخصية المصرية وتجديد شبابها أمام العالم، وفى الوقت نفسه إعادة بناء شخصية أبنائنا وأحفادنا، وتصحيح المفاهيم المغلوطة لديهم، وصياغة وعيهم بأيادٍ مصرية خالصة مُخلصة، صياغة تليق بمصريتنا وتاريخنا وثقافتنا، فوسائل الإعلام ليست كيانات معزولة عن مجتمعها وواقعها بل جزء من نسيجه ومرآة له.
عَقارب الساعة لا ترجع للوراء..لقد عِشنا فترًة ليست قصيرة من الفوضى الإعلامية، لا رؤية محددة ولا أهداف وطنية جمعية واضحة، بل كما يقول المثل الشعبى الشهير " كُلٌّ يُغَنِّي على لَيلَاه "، نَعم لن نُنكر أن ما قبل 2013 كانت الكثير من المؤسسات الإعلامية تُدار لخدمة مصالح مختلفة، ليس من بينها الوطن أو المجتمع أو الأسرة وبناؤها، بل كان ضيق تلك المصالح هو القاسم المشترك بين هذه المؤسسات.
كُنا نَفتقر للخطة الإعلامية الهادفة، وإعلاء الشأن العام على المصالح الخاصة سواء لأصحاب رؤوس الأموال المتدفقة فى هذا المجال من اتجاهات مختلفة، ومن ينوبون عنهم فى إدارة تلك المؤسسات وفق الأهواء الشخصية، مَن عملوا على زيادة جرعة المواد الترفيهية التى كان البعض منها يصل حد الإسفاف، على حساب الجدية والتراكم المعلوماتى والبناء الثقافى للعقول الشابة فأصابتها بالشيخوخة المبكرة، بل كانت هناك مُنتجات تليفزيونية تُذاع بمعزل عن مكونات مجتمعنا، حتى الأداء كان خارج سياق الشخصية المصرية فى كثير منها، بل إن بعض الصحف أصبحت، فى ذلك العهد، ساحات معارك بين أصحاب النفوذ والأموال وأدوات للابتزاز بكافة أشكاله.
فَترة تناسى خلالها الإعلام والقائمون عليه رسالتهم المُقدسة، فباتت شخصية الإعلام المصرى باهتًة تتقاذفها الأقلام فى اتجاهات مختلفة وفق الهوى، فمَن كان يفكر فى بناء شخصية أبنائنا؟! أو من شغل تفكيره ولو للحظات عن ماهية صورة الدولة المصرية والمجتمع المصرى أمام العالم؟..من كان يسعى لإبراز التاريخ بحُلة جديدة ليراه الجميع دون تشويه؟..من كان ينظر بعين الرأفة للمجتمع الذى أُصيب نسيجه الإنسانى بتهتك شديد، بعد أن جفت مصادر تغذيته ووقع بين شِقيّ الرَّحى، فما بين أخبار الشذوذ والمُحرمات والفضائح، والتوسع فى نشر الجريمة بكافة أشكالها فى سباقِ محموم نحو حصد المشاهدات أو القراءات الأكثر عددًا، والاسم الأكثرة شهرًة بالأسواق لمغازلة المعلنين لهثًا وراء المكاسب المادية دون مراعاة الصالح العام، وبين مُخطط لتغييب الهوية المصرية ومن خلفه المغرضون.
وحتى نكون مُنصفين، رُبما وُجدت وقتذاك محاولات من بعض الكيانات الإعلامية أو الأفراد لمقاومة هذا الإعوجاج فى المسار والحفاظ على قُدسية الرسالة، لكنها بقيت جهودًا مبعثرة محدودة التأثير، خَفتت بمرورالوقت فلم تنجح فى إصابة الهدف.
تِلك الفترة أحدثت شرخًا كبيرًا فى بنائنا الثقافى والمجتمعى، فاعتدنا المشوه حتى بات مألوفًا، وأَلفِنا الخطأ حتى بات الأقرب إلى الحقيقة، إن غياب الوعى الإعلامى كان عاملًا رئيسيًا فيما عانينا من أحداث ما زالت تداعياتها تُلاحقنا، كان أكثرها مرارة وصول "الإخوان" للسلطة فى فترة القبح السياسى.
إنَّ ضعف بنيتنا المعرفية وهشاشة وعي البعض منا، جعلنا عُرضة لنوع جديد من السرقات، سرقة التاريخ والتراث والشخصية المصرية الأصيلة المتفردة، سرقة كل ما هو مصرى خالص يميز المصريين، من هنا تأتى أهمية القناة الوثائقية وغيرها من القنوات التى تعالج أخطاء الماضى وتبنى وعيا حقيقيا.
لن نترك الساحة للمغرضين ليديروا المشهد من خلف مواقع التواصل الاجتماعى، أو شاشات القنوات التلفزيونية المعادية لوطننا ولشخصيتنا المصرية، وعلى الرغم من إيماننا بأهمية مواقع التواصل كمنصة للتعبير وقياس المزاج العام فى مختلف القضايا، لكن لا يُمكن الاعتماد عليها كمصدر موثوق للمعلومة، فالأساس فى نقل المعلومة الموثقة وطرح القضايا ونشر الوعى بشأنها هو وسائل الإعلام المتزنة، فإذا قامت بالدور المنوط بها كما يجب، يصبح الإنسان مُتسلحًا بالمعلومات الصحيحة، مُحصنًا بجرعة كافيةٍ من الوعى؛ ومِن ثَم يكون قادرًا على التمييز بين ما هو حقيقى وما هو مزيف مما يتناقله الناس سواء على منصات التواصل أو فى المجتمع بمؤسساته المختلفة، ويصبح الفرد فاعلًا إيجابيًا سواء كان طارحًا لرؤية بشأن قضية ما أو مناقشًا لها أو حتى مجرد قارئ.
القناة "الوثائقية" انطلاقة جديدة نحو القنوات المتخصصة بشكل مُتقن، وما أحوجنا لمِثل هذه القنوات خاصًة تلك التى تُخاطب اهتمامات الأسرة والطفل ومن هم فى سن المراهقة، لتكتمل أركان منظومة بناء الوعى.
نُدرك أن معركة الوعى طويلة الأمد ولكن خوضها حتمى، من أجل وطننا وأبنائنا، ونثق بأن المسيرة ستكتمل بمواليدِ جُدد قادرين على تلبية احتياجات جميع شرائح المجتمع واهتمامتهم، وإن اختلفت الأشكال والأدوات؛ لَكن يبقى الهدف واحدًا..الوعى..الحقيقة..الحفاظ على بنيان الكيان المصرى بالداخل وصورته القوية بالخارج.