في الوقت الذى تتفاقم فيه الأزمات التي يواجهها العالم، بصورة غير مسبوقة، تبدو الحاجة إلى تحقيق "التكامل"، ليست مجرد رفاهية، وإنما في حقيقة الأمر تمثل ضرورة ملحة، مع تنامي الحاجة إلى تذليل كافة الإمكانات التي تمتلكها الدول، سواء في المعسكر المتقدم أو النامي، لمجابهة الحالة الراهنة، والتي تعجز الإمكانات الفردية، مهما بلغت، عن مجاراتها، وهو ما يتطلب العمل المشترك بين كافة الدول لتعظيم المتاح، لدى جميع الدول، في كافة المجالات، لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة، سواء فيما يتعلق بالزراعة، في ظل أزمة غذاء طاحنة، أو الطاقة، مع تواتر التهديدات التي تواجه هذا القطاع الحيوي، أو في المجال البيئي، مع تنامي ظاهرة التغيرات المناخية وصولا إلى الصناعة، مع التركيز على الصناعات الأكثر ارتباطا بحياة البشر، على غرار الدواء، لمجابهة الأوبئة والأمراض التي باتت تمثل حالة من الذعر لدى قطاع كبير من سكان العالم، بعدما سببه "كورونا" من هلع بسبب كثرة الإصابات، والتي عجزت أعتى الدول عن ملاحقتها، من جانب، ناهيك عن توقف الحياة، وما آلت إليه من أوضاع اقتصادية صعبة.
إلا أن الحديث عن مفهوم "التكامل" ربما يرتبط للوهلة الأولى في ذهن المتلقي، على العلاقات بين الدول، في إطار اقتصادي بحت، عبر استغلال التنوع في الإمكانات، لتحقيق التبادل، بينما صار في جوهره مرتبطا بالعملية التنموية، ليتحول "التكامل الاقتصادي" من مفهومه التقليدي، إلى حالة أعم من "التكامل التنموي"، وهو ما يتجاوز النطاق الاقتصادي، القائم على التنموية التقليدية، إلى إطار أكثر شمولا يمتد، ليس فقط إلى تحقيق التنمية المستدامة، وإنما أيضا تعميمها، في إطار "تكاملي"، يشمل البعد الاقتصادي، والبيئي والمجتمعي، والسياسي، وغيرها من المحاور التي ترتكز عليها العملية التنموية في صورتها المستدامة، والتي تبنتها الأمم المتحدة، وصارت هدفا عالميا لكافة الدول حول العالم.
ونقطة الانطلاق في عملية "التكامل" في صورتها التنموية، ربما ترتكز على تحقيقها في الداخل، حتى تمهد الطريق أمام ممارستها في إطار دولي جامع، عبر تحقيق الأهداف التنموية التي تتبناها الدولة، في إطار "تكاملي" بين مختلف القطاعات، سواء الاقتصادية أو المجتمعية، أو المؤسساتية، وحتى المرتبطة بالجغرافيا الإقليمية للدولة، من خلال العمل على مسارات متوازية في كافة القطاعات المذكورة، لتتحقق فيها التنمية المنشودة، بينما تساهم في الوقت نفسه في تنمية الأوضاع العامة بالدولة، ومن ثم تعميم التجربة بصورة إقليمية، ومنها إلى العالمية.
فلو نظرنا إلى النموذج المصري، باعتباره أحد اهم النماذج الرائدة، ربما نجد ارتباط التنمية بالعديد من القطاعات، ليست فقط الاقتصادية، وإنما أيضا المجتمعية، عبر تعزيز دور القطاعات المجتمعية، كالشباب والمرأة وذوى الهمم، والعمل على تنمية ما يمتلكونه من مهارات استثنائية وطاقات فعالة، من شأنها المساهمة في الإطار المستدام للعملية التنموية بينما تبقى التنمية المؤسساتية جانبا أخر، عبر العمل على تحسين الأداء المهني لمؤسسات الدولة لتأدية دورها، مع العمل على تنمية دور المؤسسات الأخرى، كمنظمات المجتمع المدنى والمؤسسات الإعلامية، حتى يمكنها المساهمة بدور فعال لزيادة الوعي المجتمعي، بكافة القضايا المحيطة، في حين تبقى تنمية القطاعات الاقتصادية أولوية كبيرة، وهو ما يبدو في العمل على دعم القطاع الزراعي والصناعي، ناهيك عن استكشاف الموارد المتاحة، على غرار الغاز الطبيعي، لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي في مختلف القطاعات الحيوية، وتمهيد الطريق في المستقبل للمساهمة في حل الأزمات العالمية المرتبطة بها، عبر تصدير الفائض منها.
ولا يقتصر مفهوم "التكامل التنموي" على القطاعات المذكورة، وإنما تمتد إلى ما يمكننا تسميته بـ"الجغرافيا التنموية"، والتي تبدو في تحقيق حالة من التكامل التنموي، في مختلف الأقاليم الجغرافية الواقعة تحت سيادة الدولة المصرية، بدءً من المركز في العاصمة، وانطلاقا إلى الأقاليم، من سيناء إلى الصعيد، مرورا بمحافظات الوجه البحري، وهو الأمر الذي من شأنه تعزيز تلك الحالة التكاملية، التي دشنتها الدولة المصرية، في إطار تنموي، يشمل الاقتصاد والمجتمع والبيئة، بينما يساهم في الوقت نفسه في تعزيز الأوضاع الأمنية في تلك المناطق التي ضربها التهميش، سواء بمفهومها التقليدي، في ظل الحرب التي تشنها الدولة على جماعات الظلام التي وجدت في تلك المناطق ملاذا آمنا، أو بصورتها المستحدثة في ظل ارتباط العديد من القطاعات بمفهوم "الأمن" جراء التهديدات التي تواجهها، سواء فيما يتعلق بقطاعات الغذاء والطاقة والبيئة، والتي يمثل نقصها أو تهديدها حالة من الاضطراب المجتمعي، والتي تصب بدورها في بوتقة الأمن العام، سواء داخل الدول أو عالميا، وبالتالي كانت رؤية الدولة قائمة في الأساس على استغلال التنوع التي تحظى به مختلف الأقاليم الجغرافية في مصر، جراء إمكاناتها المختلفة، لمواجهة الأزمات، التي باتت تضرب العالم في اللحظة الراهنة.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم "التكامل" المنشود، لم يعد قاصرا على الجانب الاقتصادي، بينما بات أكثر شمولا في إطار "تنموي" شامل للعديد من القطاعات، تتكامل فيه ثلاثية الجغرافيا والاقتصاد والأمن، والتي تمثل الهدف الرئيسي من التكامل، عبر مد العملية التنموية إلى أكبر مساحة جغرافية ممكنة، في الوقت الذى يبقى فيه الاقتصاد أولوية قصوى للعملية التنموية، في حين يبقى الأمن مرتبطا بهما عبر مطاردة جماعات الظلام التي تسعى لاستغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة في المناطق المهمشة، من جانب، مع العمل على تأمين احتياجات المواطنين، لحفظ المفاهيم المستحدثة للجانب الأمني، والتي باتت تتعلق بالقطاعات الحيوية، المرتبطة بحياة المواطنين.