يتوافر لدى المواطن الآمن في بلاده قدرًا كبيرًا من الثقة، التي تنعكس على نفسه وعلى الآخرين، ويظهر ذلك على سلوكه؛ فعلى الصعيد الشخصي يلتزم بالضوابط والمبادئ والقيم بأنواعها سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم عقائدية، وعلى الصعيد الجماعي يتعاون مع الآخرين في أداء مهام تفاعلية، ويبتكر في مجال تخصصه النوعي. ومن ثم فالشعور بالأمن يشغل المرتبة الثانية بعد تلبية الاحتياجات الفسيولوجية والجسمية، ويتمخض عن تشبعه شعور المواطن بالحب والانتماء وتقدير الذات والفهم العميق الناتج عن المعرفة غير المشوبة، وهذا ما يحقق مفهوم الأمن القومي.
ويعد الأمن القومي متطلبًا إنسانيًا رئيسًا، تصعب الحياة بدونه، ويشير هذا المفهوم إلى مقدرة الدولة على تنمية ما تمتلكه من قدرات سياسية واقتصادية وعلمية وتقنية وعسكرية على المستويين الداخلي والخارجي، ومن ثم تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية نسقها القيمي ضد التهديدات الخارجية بغية الحفاظ على هويتها الحضارية، وبما يحقق المصلحة القومية لكيانها، وبما يؤدي إلى قيام المجتمع بكافة أفراده إلى تحقيق أكبر قدر من الفعالية في شتى مجالات الحياة.
وتأبى الدولة التي تحرص على صيانة أمنها القومي أن ينال كائن من كان من سيادتها وحقوقها المرتبطة بسلامة الأرض والمواطن على السواء؛ لذا تعمل على توفير ما يلزم من قوة لحماية هذا الهدف السامي، مستخدمة كافة الوسائل العلمية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية.
ويشكل التعليم أهمية قصوى في تحقيق الأمن القومي؛ حيث يوفر متطلبات حماية الأمن القومي من شتى التحديات التي تهدده؛ إذ بواسطته يتشكل الوعي الصحيح لدى الفرد الذي يمتلك مقومات المواطن الصالح، وهذا الأمر انتبهت له دول العالم قاطبة، بالإضافة إلى أن التعليم وفق مخرجاته يؤثر على الجانب المادي للأمن القومي المرتبطة بمقدرة الدولة الاقتصادية والعسكرية، وعلى الجانب المعنوي المتعلق بالولاء والانتماء، ومدى تقدير المواطن للنظام السياسي، والتفافه حول قيادته، إيمانًا بالأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها .
ويكمن الولاء للوطن في إيمان الفرد العميق بقيم المواطنة، والتي تعضد روح العمل التطوعي واستشعاره بالحرية المسئولة، وتأصيل النسق القيمي لدى الفرد والذي يقره المجتمع، عندئذ يستشعر مدى أهمية سياج الحماية وما يتمخض عنه من نفع وعدالة اجتماعية نتيجة لانتمائه لوطنه، مما يؤهله لأن يسمو بهذا الوطن ويقدم التضحيات في سبيله.
وتؤثر التنشئة الاجتماعية المقدمة من المؤسسات التربوية وغير التربوية على درجة الانتماء وفق بُعده السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو العقائدي أو حتى الجغرافي، ومن ثم تُشكل المؤسسة التربوية اللبنة الرئيسة لبنيان الولاء والانتماء في ضوء تنوعاته، والذي يشير إلى صورة العلاقة بين الوطن وتلك الانتماءات لدى أفراد المجتمع، والتي تبقى ما بقى الوطن متماسكًا؛ فإذا ما انهارت الدولة تظهر الولاءات والانتماءات الطائفية، وفي المقابل تضعف القومية في صورتها المتكاملة.
وتتبنى المؤسسة التربوية أنشطة عديدة تعمل على تنمية الانتماء الوطني لدى منتسبيها؛ حيث تزيد من الاتجاه الإيجابي نحو حب الوطن وصيانة مقدراته وتُقوي الروابط بمؤسساته العامة والخاصة عبر ما تُقدمه من أدوار خدمية، وتُشعره بالفخر والاعتزاز بهويته وثقافته، وتجعله مهتمًا ومنشغلًا بمشكلاته وقضاياه، باحثًا عن حلول لما يواجهه من تحديات، ملتزمًا بقوانينه محترمًا للغير، حافظًا للحقوق، مراعيًا للمصلحة العامة، ومقدمًا لها عن المصلحة الشخصية، ومن ثم لا يتخلى عنه في الأزمات.
وتعمل المؤسسة التربوية على تأكيد الهوية لدى الفرد عبر سلوكيات تبرهن مؤشراتها عن التبعية والانتماء للوطن، وتحرص على تقوية التعاون والشراكة بين الأفراد بغية الوصول إلى الهدف المشترك، مما يعمق الوجدان نحو الجماعية، ويعزز الميل إلى المحبة والعطاء والإيثار والتراحم بهدف التوحد مع الجماعة، مما يسهم في تقوية الانتماء من خلال الاستمتاع بالتفاعل الحميم للتأكيد على التعامل المتبادل، كما يزيد من تأييد الفرد لجماعته، ويشير إلى مدى الانتماء إليها.
وتستهدف المؤسسة التربوية تنمية بعض القيم التي تعبر عن الديمقراطية في صورتها الصحيحة؛ حيث تراعي الفروق الفردية بين الأفراد بغية تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في اكتساب الخبرات التعليمية، وتتيح الفرصة للحوار والمناقشة ومن ثم التعبير عن الرأي بحرية في إطار من النظام ووفق قواعد وآداب الحوار التي يُعلن عنها، وتضع من الأنشطة التعليمية ما يتيح الفرصة لتنمية مهارات التفكير العليا وكذلك تنمية المقدرة على النقد البناء وتقبل نقد الآخر المبني على الشاهد والدليل، وتحرص المؤسسة التربوية أيضًا على تقديم الرعاية الصحية مقرونة بالرعاية الاجتماعية؛ لتحدث الأثر الفاعل في تنمية قدرات وإمكانيات الفرد في صورتها المتكاملة، ومن ثم تنمو لديه روح الولاء والانتماء لوطنه.
وتحرص المؤسسة التربوية على تعديل السلوك لدى الفرد من خلال تزويده بالخبرات التي تتضمن معلومات ومهارات ووجدانيات تسهم في تشكيل شخصيته وتكسبه المهارات اللازمة ليكون فاعلًا في مجتمعه، ولا ينفك ذلك عن تحمله للمسئولية عند أداء المهام التي يُكلف بها داخل البيئة التعليمية النظامية أو خارجها، وتحثه على أن يكون إيجابيًا في مجتمعه مشاركًا في شئونه ومشكلاته، بما يؤدي إلى غرس الاتجاهات الإيجابية نحو العمل التشاركي، ومن ثم يجنبه ممارسة السلوكيات غير الصحيحة والتي لا تتسق مع النسق القيمي للمجتمع الذي ينتمي إليه، وبالطبع يؤدي ذلك إلى تشكيل وعي صحي يساعد الفرد على التوافق والتكيف مع قضايا مجتمعه ويسهم في تنمية الانتماء الوطني.
وإذا ما تخلت المؤسسة التربوية عن مسئوليتها المتعددة سالفة الذكر؛ فإن ضعف الانتماء الوطني هو البديل الذي ينتج أثارًا سلبية يصعب حصرها؛ حيث تتنامى كل أنماط العنف لدى الفرد ما بين عنف مع النفس وعنف مع الآخر وعنف مع الأسرة وعنف مع المجتمع، كما تزيد دائرة التعصب والعنصرية؛ حيث يسعى الفرد نحو حماية نفسه والدائرة التي يهتم بها فقط؛ فلا اعتبار للوطن ولا مكان لمقدراته، وبالتالي تتضاعف صورة الجريمة والتي تنال المبررات الواهية لديه، ومنها الانتقام من أصحاب الحكم أو المال أو الجاه، وتارة من أفراد المجتمع بأكمله في محاولة للحصول على بعض المكاسب من وجهة نظره.
وتنتقل الولاءات والتبعية لدى الأفراد نحو من يمتلك القوة والسلطان إذا ما تقاعست المؤسسة التربوية عن أدوارها، ومن ثم تنمو لدى الفرد الغاية تبرر الوسيلة؛ حيث التخلي عن المبدأ من أجل المصلحة، واستخدام طرق غير شريعة لتحقيق النفعية؛ لذا لا مكان لوطن في القلوب؛ فولاء الفرد للمنفعة مقدم على الولاء للوطن، وهنا تتفاقم السلوكيات غير المرغوب فيها ما بين محسوبية ورشوة وعبث بالنظام وتعضيد لفكرة شريعة الغاب وتنامي صور الفساد الإداري والمالي، وفقد قيمة العدل والمساواة، بما يحدث الاستهانة المتبادلة بين المواطنين بدولتهم، والحكومات بمواطنيها، يتبع ذلك الجرأة على الدولة، وتلكم بداية السقوط.
لقد بات لزامًا على المؤسسة التربوية إكساب منتسبيها القيم التي تضمن ولاءهم لوطنهم عبر ما تقدمه من المعارف والمهارات والاتجاهات التي تشكل الخبرة المؤثرة في سلوكياتهم العامة وتشكيل وعيهم نحو الاعتزاز بقوميتهم ووطنهم، والذي يتأتى من خلال الاحترام المتبادل وتحمل المسئولية للارتقاء بالنفس وبالمجتمع، والاهتمام بقضايا المجتمع على المستويين المحلي والعالمي، مع الاستيعاب والفهم الصحيح للبنية السياسية والوظيفية للمجتمع، بالإضافة إلى تقبل الثقافات المتباينة للمجتمعات الأخرى، والتأكيد على إدراك ماهية الحرية المسئولة.
حفظ الله وطننا وأبناءه ووفق قيادتنا السياسية فيما تقدمه من جهود بناءه للارتقاء بمقدراته.