"السيرة أطول من العمر"، هكذا يقول المصريون دائما، وبالفعل هذه عبارة شديدة الدقة، تكشفها الظروف، وترصدها وقائع الأيام، فالكثير من النماذج الملهمة رحلت بأجسادها، لكنها مازالت تعيش بيننا حتى اللحظة، وستظل خالدة في ذاكرة المحبين، والمرويات الشعبية، وتتوارثها الأجيال، وأظن أن أعظم ما يخلده الناس ويبقى في أعماقهم، المواقف الإنسانية، وعبارات الدعم والمعاونة، والكلمات الصادقة، التي غالباً تأتيهم من أشخاص يلقي بهم القدر فجأة في الطريق دون ترتيب أو حساب.
قبل ما يقرب من 10 سنوات ذهبت إلى مصيف "سيدى كرير" بالساحل الشمالي، وكنت حينها قد أتمت عاماً على زواجي، وكانت ابنتي رنا طفلة رضيعة، لم تبلغ من العمر أكثر من عدة أشهر، أسرة متواضعة لا تملك سيارة، ولم تجد سوى "أتوبيس" تابع لأحد الشركات المملوكة لوزارة النقل طريقاً لها إلى تلك القرية، التي تتبع القوات المسلحة، وبعد إتمام إجراءات السفر، ورحلة استغرقت نحو ساعتين ونصف، وصلنا إلى المكان المذكور، الذى كان بداخله محطة للأتوبيس، نزلنا بعد بلوغ المقصد وقد كنا في سعادة غامرة، خاصة أنه أول مصيف مع "رنا" التي كان جمال ملامحها يخطف نظر كل من يراها.
كنت أصطحب معي شنطة سفر كبيرة ومجموعة من المستلزمات، التى ربما كانت عوناً في رحلة استمرت 7 أيام كاملة، بالإضافة إلى "عربة الطفلة"، لكن مشكلة ظهرت لم نكن نفكر فيها، فحتى أتمكن من السكن ودخول الشقة، يجب أن أصل أولاً إلى عمارات الشئون المعنوية، التي لم أكن أعرف طريقها في هذه القرية الكبيرة جداً، واكتشفت أنها تبعد مسافة ليست قصيرة عن النقطة التي نجلس فيها، وسط أجواء حاره وشمس حارقة.
توقفت فجأة مع الزوجة والابنة، ماذا نفعل؟ هل أتركهم بمفردهم لحين إنهاء الإجراءات أم أصطحبهم معي كل هذه المسافة، وسط هذا الحر اللافح، لكن فجأة ودون مقدمات ظهر رجل أنيق، أبيض الشعر، يرتدى ملابس رياضية، كان يسير بسيارته إلى جوارنا وتوقف فجأة وقال :" إنت رايح فين"، شرحت له القصة وأخبرته أنني أقصد مبني الشئون المعنوية لإنهاء إجراءات التسكين، فقال:" اركب اوصلك لغاية هناك، وخلي البنت والمدام مع أسرتي هنا"، فقد كان له شقة في نفس المكان بالدور الأرضي، وبالفعل نفذت ما طلب، نتيجة إصراره وطريقته المهذبة.
حتي تلك اللحظة لم أكن أعرف مع من أتحدث، فلم تسعفنا الظروف على تقديم أنفسنا، لكني أظنه تحرك بدافع رؤية شخص يستحق المعاونة فلم يتأخر وبادر بمساعدته، دون النظر لصغر سنه، أو هندامه الذي نال منه طريق السفر، لذلك لم تكن تلك المساعدة مبررة بأي دافع سوى الإنسانية والشهامة من رجل عاش عمره يدافع عن تراب وطنه.
ركبت معه السيارة وعرفته بنفسي، فرحب بحضوري، وأخبرني أنه اللواء مصطفى كامل، مدير الكلية الحربية الأسبق، ومحافظ بورسعيد الأسبق، وكان شديد الحب، شديد التواضع وهو يتحدث عن نفسه، مع العلم أنه كان أحد القادة البارزين في القوات المسلحة، ورجل مشهود له بالكفاءة والنزاهة، وقبل ذلك كله بطل من أبطال الصاعقة في حرب أكتوبر المجيدة، وعالم كبير في الاستراتيجية والتخطيط والعلوم العسكرية، ورجل من فرسان الزمن الجميل، تحركه دوافع الشهامة، ومازالت أخلاق الصاعقة وحب العطاء تسيطر على سلوكياته وأفعاله.
نزلت من السيارة لإنهاء الإجراءات وشكرته، فقال لي، سوف أنتظرك حتى تعود، ولم يتراجع عن هذا المطلب وأصر عليه، وبالفعل عدت له بعد بضعة دقائق، واصطحبني حتى العمارة المنشودة، فشكرته جزيلاً، وعبرت عن امتناني بخدمته ووقته الذي اقتطعه لمساعدتي، وروحه العالية، التي جعلت هذا الموقف محفوراً في ذاكرتي لأكثر من 10 سنوات، أتذكره وكأنه اليوم.
أخذتني دوامة الحياة، وانشغلت بتفاصيل ثورة 30 يونيو 2013، وما أعقبها من أحداث وتطورات، ولم أتواصل مع اللواء مصطفى كامل، مرة واحدة، ولم تجمعنا الظروف أو الصدف أبداً طيلة هذه السنوات، حتى فوجئت بخبر وفاته في نهاية شهر ديسمبر الماضي، وقد تزامن مع وفاة والدة زوجتي، فلم تسعفني الأيام عن كتابة النعي اللائق لهذا الفارس النبيل، والقائد الراقي، فقررت أن أكتبها في مقال أروي تفاصيله بدقة وعناية، رداً لجميل هذا الرجل، ومقابلاً لمحبته الصادقة، فمن يأبه لشاب غريب تائه، يحمل حقائبه، ولا يعرف طريقه.
قد نملك في الذاكرة عشرات المواقف والأحداث المحورية، والوقائع شديدة الأهمية، لكن تظل تلك التي نلقى فيها دعماً غير مبرر من أشخاص لا نعرفهم مميزة ومختلفة، فليست هذه الوقائع سوى جواهر ثمينة محفوظة في صناديق العقل، لا يمسها النسيان، ولا تمحيها الأحداث ومشكلات الأيام، كل الدعوات للفقيد المرحوم بإذن الله تعالى اللواء مصطفي كامل، وكل الحب والتمنيات لروحه الطاهرة أن يسكنها الله فسيح جناته، فقد كان رجلاً من فرسان القدر، قلما يجود الزمان بمثله، وأحد أبناء جيل أكتوبر العظيم، الذي وضع مصلحة مصر فوق كل اعتبار، وقدم من البطولات والتضحيات الكثير، حتى تبقى مصر مرفوعة الرأس.