مراحل عدة شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، وتحديدا تلك التي أعقبت حقبة الفوضى، التي أرساها "الربيع العربي" في العقد الماضي، ربما كان أبرزها تحقيق أكبر قدر من التوافق بين القوى الرئيسية، بدءا من المنطقة العربية، وحتى الإقليم الأوسع بصورته الجمعية، وهو ما ساهم في تهيئة البيئة الإقليمية، نحو العودة مجددا إلى "مركزية" القضية الفلسطينية، وهو ما بدا بوضوح في اجتماع شرم الشيخ، الذى انعقد الأحد، والذي أسفر في نهاية المطاف عن إعلان من شأنه تحقيق قدر من المهادنة السياسية، تمهيدا للوصول مجددا إلى مائدة المفاوضات، والعمل على تحقيق حلول عادلة، تعتمد إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام.
ولعل العودة إلى مركزية القضية الفلسطينية، حمل العديد من الإرهاصات، التي تمخضت عنها السنوات الماضية، أهمها احتواء الخلافات العربية - العربية، كخطوة أولى من شأنها تحقيق "لم الشمل" الإقليمي، وهو ما بدا في العديد من المراحل، كان أخرها التقارب العربي مع سوريا، والذي ساهم الزلزال الأخير في الإسراع من وتيرته، بينما شهدت العلاقات العربية التركية تطورا كبيرا، وهو ما يبدو في تبادل الزيارات بين وزراء الخارجية بين مصر وتركيا، في الأيام الماضية، ناهيك على الاتفاق السعودي الإيراني، بوساطة الصين والذي يمثل طفرة مهمة في تاريخ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأنه أحد أهم الصراعات طويلة الأمد، ناهيك عن كونه نقطة انطلاق مهمة لأدوار مستقبلية لقوى دولية، يمكنها مزاحمة الهيمنة التي حظت بها واشنطن لسنوات، في العديد من القضايا الإقليمية بالمنطقة.
وفى الواقع أن إزاحة القضية الفلسطينية أو تراجعها كان يمثل هدفا رئيسيا للقوى الدولية المهيمنة على العالم خلال السنوات الماضية، خاصة بعد اندلاع "الربيع العربي"، والذي ساهم في تواريها، في ظل انكفاء العديد من دول المنطقة على حماية حدودها وأمنها، جراء التهديدات التي واجهتها، وعلى رأسها الإرهاب، مع بزوغ جماعات متجاوزة الدول، على غرار تنظيم داعش، ناهيك عما أحدثته تلك الحقبة من انقسامات عميقة في المستويين العربي والإقليمي، في ظل طموحات الصعود التي تبنتها العديد من الدول، للقيام بدور أكبر على حساب القوى الرئيسية في المنطقة.
إلا أن الخطوات المتسارعة التي اتخذتها القوى الإقليمية الرئيسية، عبر التحول نحو مفاهيم "التوافق" بين القوى المتصارعة، في إطار مساعي تحويل الصراع القائم بينها، إلى منافسة، مع العمل الدؤوب على تعظيم المصالح المشتركة، تزامنا مع خلق مساحات لأدوار أكبر لكافة الدول الفاعلة في المنطقة لتحقيقها لعبت الدور الأبرز في التحول نحو ما يمكننا تسميته بـ"الشراكة التنافسية"، والتي تعتمد منهج العمل معا، رغم الخلافات القائمة، والتي يمكنها أن تتلاشى تدريجيا مع تعاظم المشتركات.
وشهدت تلك الخطوات العديد من المراحل المتزامنة، منها تدشين شراكات صغيرة، تجاوزت الإطار الثنائي، قابلة للتوسع، وهو النهج الذي تبنته الدولة المصرية، على غرار الشراكة الثلاثية مع كل من الأردن والعراق، والذي ساهم في تدشين "مؤتمر بغداد"، والذي ضم العديد من الدول الأخرى، سواء عربية أو غير عربية، على غرار المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وإيران وتركيا، ليجتمعوا معا على مائدة تفاوضية في إطار رسمي لأول مرة منذ سنوات، وهو ما ساهم في تهيئة البيئة الإقليمية نحو "حزمة من المصالحات" الإقليمية، فتحت الباب مجددا أمام العودة للأولويات.
ربما يبقى تغيير الأوضاع الدولية، وانتقال حالة الصراع إلى قلب أوروبا، في إطار الأزمة الأوكرانية، والتي تركت تداعيات حادة، ساهمت بصورة كبيرة لتوسيع مساحة الأدوار التي يمكن أن تقوم بها القوى الإقليمية الرئيسية، لتتجاوز النطاق الإقليمي الضيق، في ظل حاجة القارة العجوز إلى دول المنطقة، لسد العجز الناجم عن الأزمة فيما يتعلق بقطاعي الغذاء والطاقة، بالإضافة إلى نجاح القوى الإقليمية بموقف محايد تجاه مختلف الأطراف، مما ساهم في زيادة أسهمهم للقيام بدور مؤثر، ناهيك عن اتساع المساحة داخل الإقليم للقبول بأدوار جديدة، ساهمت إلى حد كبير في تخفيف حدة الصراع داخله، لتبقى المحصلة في نهاية المطاف في صالح عودة "البوصلة" مجددا إلى مدار القضية الفلسطينية، بعد سنوات من التراجع.
وهنا يمكننا القول بأن العودة إلى "مركزية" القضية الفلسطينية هو بمثابة ثمرة لجهود كبيرة بذلتها القوى الرئيسية في المنطقة نحو إعادة تهيئة "البيئة الإقليمية"، عبر الخروج من دائرة الصراع، إلى التوافق، لتحقيق المصالح العامة للإقليم بصورته الجمعية، وكذلك المصالح المشتركة لكافة دول المنطقة، وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تحقيقه في ظل حالة الصراع الدائم، التي هيمنت على المنطقة خلال عقود على مستوى الدول، سواء في إطار مباشر أو في شكل صراعات بالوكالة، بينما وصلت إلى الذروة عندما امتدت إلى النطاق الأهلي في العقد الماضي