"هل للبشر صور ثابتة؟ هل للحياة شكل واحد فريد؟" أسئلة إذا طُرحت على أحدنا سيكون الرد بالتأكيد "لا"، الحياة مُتغيّرة والبشر يتغيّرون، وإن بدت الأوضاع مُتشابهة فى كثير من الأحيان، فبمراجعة كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالمجتمع المصري آخر 100 عام، سنجد التاريخ يُعيد نفسه نسبيًّا، أو على وجه مُشابه لسوابق الأحداث، كأننا نتأرجح على بندول بين الألم والغضب، أو كما وصفها الفيلسوف العدمى شوبنهاور "تتأرجحُ الحياة كرقّاص الساعة بين الألم والضجر".
من هذا المنطلق، يُمكننا النظر إلى أعمال الفنان الكبير محمد صبحى الأخيرة، خاصة أحدث عروضه المسرحية "عيلة اتعمل لها بلوك"، الذى يتصدّره بطلا ومُخرجًا وصاحب الرؤية الدرامية، ويشاركه البطولة وفاء صادق وفرقة "استوديو الممثل".
يدور العمل فى إطار كوميدى استعراضى، مستعرضا حياة أسرة مصرية عبر مراحل مختلفة من تاريخ مصر الحديث، بدءًا من ثورة 1919 حتى مطلع الألفية الثالثة، من خلال رصد أهم المتغيّرات وما طال الأبنية الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وتركيبة الشخصية المصرية خلال تلك الفترة، مبيّنًا حجم الانحدار الأخلاقى الطارئ على المجتمع المصرى خاصة بعد عصر الانفتاح والتطور التكنولوجى الرهيب.
فى "عيلة اتعمل لها بلوك" تدور الأحداث كلها داخل منزل امتلكه الجد، وتوارثه الأبناء واحد تلو آخر، تغيّر الجميع وتبدّلوا داخل العرض لكن ظل المنزل ثابتا على حاله، إذ تعامل معه "صبحى" بتصوّر رمزى واضح، متخذا منه منصة للتعبير عن مصر جغرافيًّا وتاريخيًّا، وذلك عبر عدة حقب مهمة شملت: ثورة 1919، وثورة 23 يوليو 1952، ونكسة 1967، وانتصار أكتوبر 1973، ثم فترة الانفتاح وعصر الإنترنت والسوشيال ميديا.
يتتبع "صبحى" فى العرض الحلقات المفصلية من تاريخ مصر الحديث؛ لاستقراء مساحة الإزاحة والتغيير داخل طبقات الوعى الجمعى، وتحوّلات ثقافة الطبقات الاجتماعية على تنوّعها وتباينها، ليُبين من خلال الالتقاطة الذكية والبناء الفسيح لدراما العرض كيف تحكمت الأحداث فى مسار الأشخاص، ومارست الفعل فى الطبيعة المصرية اقتصاديا، وما آلت إليه الأمور من تراجع على المنحنى الفنى والثقافى، وكأن صاحب "وجهة نظر" أراد القول إن التغيير الكبير فى الذائقة الجماعية لم يكن وليد الصدفة، وإنما كان نتاج حالة شاملة من التراجع على عدة مستويات.
بالنظر إلى عتبة النص/ العنوان "عيلة اتعمل لها بلوك"، ورغم إشارته المباشرة إلى مفردة مُستجلبة من سياق حداثى يخص فترة ثورة المعلومات وتقنيات العالم الافتراضى على مواقع التواصل الاجتماعى، باعتبارها وسيلة سهلة للتخلص من الإزعاج أو ممارسة قدر من الوصاية وامتلاك القدرة على نفى الآخرين واستبعادهم، إلا أنه حافظ خلال معالجته الدرامية على إشارة واضحة وممتدة لتتبع مسار الشخصية المصرية فى بنائها وتطورها، وأثر طفرات الواقع على حدود الوعى وآليات التعامل، ما قاد إلى تحوّل عام من ثقافة المعرفة إلى حالة ادعاء وسطحية، ومن الطرب الرفيع إلى الغناء المُبتذل وأغانى المهرجانات، ومن القيم الأصيلة إلى الانتهازية والكراهية، وكأن "البلوك" الذى يحدث الآن كصورة لتسييد فكرة الأنا ذات الصوت الواحد الرافضة للتنوع والاختلاف، كان فى الوقت نفسه شطبًا عنيفا لكل القيم الأصيلة فى المجتمع، إذ تحّلت وذبلت وفقدناها مع الوقت.
وظّف "صبحى" الديكور فى عرضه توظيفًا مُحكمًا، يتماشى مع السياقات التاريخية الحاملة للحكاية، فضلا عن دلالته الرمزية المُعبّرة عن الامتداد والروابط المشتركة والإرث الحضارى الكبير للعائلة/ الشعب، وإنكار هذه القيمة وعدم تقديرها فى الوقت نفسه، وظهر ذلك جليًّا فى المكتبة الضخمة وأعمال الأرابيسك التى توارثها الأبناء قبل أن يتخلّصوا منها فى عصر الانفتاح بمقابل زهيد، كتعبير عن ضياع جزء كبير من التراث مثلما حدث مع جانب من أرشيف المسرح المصرى فى مهده، والإذاعة والتليفزيون فى بدايتيهما، بينما ظل البيانو الكبير حاضرًا فى الصورة وإن كان هامشيًا، تعبيرًا عن بقاء شىء من هذا الإرث فى عُمق المشهد وداخل طبقات الوعى، حتى وإن لم تستفد منه العائلة، بالضبط كما يحدث مع كثير من عناصر الثراء الثقافى والمعرفى لدى العائلة المصرية الكبيرة.
لم يكتف الفنان محمد صبحى بتقديم المسرح بصورته التقليدية فقط، وإنما استخدم تقنية "المسرح الوثائقى" عبر عرض تقارير صحفية ومواد فيلمية وخطب سياسية شهيرة، مثل لقطات ثورة 1919 وجنازة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وانتصار أكتوبر وحادثة المنصة التى استُشهد فيها الرئيس الراحل أنور السادات، ما خلق تفاعلا كبيرًا مع الجمهور، حسب تنوّع الأعمار ومستويات المعرفة، ولمس مساحة النوستالجيا لدى كثيرين ممّن يحملون تقديرًا لإرث العائلة، ويتطلعون إلى استعادة جانب من بريقه.
اعتمد "صبحى" كعادته على تقديم الكوميديا السوداء، أو التراجيديا بشكل ساخر، فى شكل يتوافق مع شرح الدكتور عبد الرحمن بدوى لكتاب أرسطو الشهير "فن الشعر" بأن "للمأساة – التراجيديا - غاية واضحة هى تطهير النفس"، خاصة فى الفصل الأخير حينما حاول الابن تطهير أبنائه من آثامهم وأغراضهم التى وصلت إلى حد الرغبة فى التخلص من الأب وتركه فريسة للمرض؛ من أجل ميراثه وبيع أعضائه حتى وهو على قيد الحياة.
فى النهاية، قدّم "صبحى" عرضًا كلاسيكيًا فى تناوله، حاول من خلاله البحث عن إجابات لأسئلة الهوية والشخصية، وأسباب التراجع الأخلاقى والمعرفى، وما طال تركيبة الشخصية من تحوّلات حادة، لكنه فى الوقت نفسه لا ينفصل عن بيئته الحاملة، ولا لغة عصره، ويتماشى مع سياق التلقى الراهن مسرحيًّا، برؤية واضحة، وتسلسل حكائى ممتع، وإيقاع سريع واستعراضات جميلة وعصرية تُعبّر عن الحالة وتُقدّم مُعادلاً بصريًّا مُتزنًا ومُبدعًا.