هل تظن أن التاريخ كتاب مفتوح بالقدر الذي يمكنك أن تضيف إليه شيئا أو تحذف منه أشياء؟.. يستوقفني محمد الشماع، بوصفه باحثًا مهمًا مهتمًا بالتنقيب فى التاريخ الاجتماعي لمصر، يرى التاريخ الرسمي أمامه، لكنه يعرف جيدًا أن هذا التاريخ صاغته إحدى ثلاث نظرات، الأولى استعمارية تجعلنا نكره أنفسنا وتاريخنا، والثانية نظرة فردية تنظر للتاريخ بوصفه صناعة أشخاص وفقط، والنظرة الثالثة تقدم رؤية عامة لكل شيء، ونتج عن هذه النظرات الثلاثة أن أصبح التاريخ "المصرى" له شوارع عامة أمامية نعرفها وندرسها فى المدارس، لكن ماذا عن الشوارع الخلفية لهذا التاريخ نفسه؟
و"الشوارع الخلفية .. عن المهمل والمسموم فى تاريخ مصر 1882- 1952) اسم الكتاب الجديد لمحمد الشماع، و الكتاب ضمن مشروع الشماع لتقديم التاريخ الاجتماعي لمصر، بالبحث حول الحدث واكتشاف صنَّاعه الحقيقيين وليسوا الذين أحذوا "اللقطة".
يسعى محمد الشماع على حد قوله إلى أن يرسخ للمهمشين أبطال التاريخ الاجتماعي في مصر، لمحاولة كشف بعض الحقائق وتدقيق بعض المعلومات التي تدفقت في الأنهار الجارية للتاريخ الرسمي، يقول محمد الشماع فى الكتاب، مسألة إعادة كتابة التاريخ القومي ضرورة، خصوصا فى أزمات المناخ غير الصحي الذي ساد الحياة الفكرية المصرية في كثير من فترات التاريخ.
لا يبنى محمد الشماع أفكاره على العاطفة أو حتى التأويل لكنه يستنطق الكتب والشخصيات، فيلقى الضوء عليهما فيقدمان لنا ما لم نكن نعرفه من قبل، وعلى هذا الأساس يقول لنا الكتاب إن اللور كرومر كان يكره مصر، ولا يراها سوى "مستعمرة" وكانت نظرته مسمومة، وهناك سياسيون وصحف تأثرت بنظرته الاستعمارية، كما يتوقف عند مذكرات الخديوى عباس حلمي الثاني وعنوانها "عهدي"، وهي مذكرات مهمة بالفعل وجزء من أهميتها أن هذه المذكرات كتبها حاكم مصري، كما أنها تكشف عن جزء مهم من تاريخ مصر، واكتمال هذا الفصل بكتاب "البارون كوسيل" عن الحياة فى مصر، وقد وصفه محمد الشماع بشاهد لم يشهد، بما يكشف لنا أن التاريخ أحيانا يقوم على كتب مدى الصدق فيها متراجع، وبها الكثير من الخلط.
أما الفصل "وقالت الصحف" ففكرته مفيدة جدا، حيث قدم قراءة فى تاريخ الصحافة ذات الصبغة الدينية فى مصر سواء أكانت إسلامية أم مسيحية أم يهودية، وقراءة فى الصحف وأسمائها والشخصيات والمؤسسات التي وراءها وأهدافها يكشف لنا جانبا مهما من الحياة المصرية ومن الصراع الدائر بين الطوائف فى المحروسة.
أما الجزء المعنون بأبناء الليل والشوارع فى الكتاب، وهى المنطقة التي تستهوي محمد الشماع فى الأصل، وفيه تظهر كتب مهمة لصلاح عيسى ممثل "رجال ريا وسكية" و"أفيون وبنادق" حيث الخط وتاريخ الصعيد المجهول، وأدهم الشرقاوي وتاريخ الدلتا الذي لا يهتم به المؤرخون، كذلك كتابه عن الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث القاهرة بسياستها وفنونها، وينتمي إلى ذلك الجزء الشيق من لغة أهل الشارع، والفتوات والبرمجية، والراقصات والعوالم، وكتب المستشرقين ومن زاروا مصر عن "أرض الجريمة"، والمقاهي والشوارع، وحتى المسرح فى مصر.
أما الفصل المعنون بخارج الكنيسة والمعبد، فيستعرض تاريخ بعض الشخصيات المسيحية واليهودية فى الحركة الوطنية المصرية، وكيف كانت المصائر، والعلاقة بين البدايات والنهايات، ولعل ما يتعلق بالقمص سرجيوس، خطيب ثورة 1919 وتحولاته تدفعنا للتأمل فى الحياة الإنسانية أكثر، قبل أن ينتهي الكتاب بحديث مهم عن اليهود فى مصر.
إن الكتاب حلقة جديدة توثق لحياتنا كمصريين وتدفعنا لرواية تاريخنا القديم لكن بطريقة جديدة تعطي كل ذي حق حقه.