حليم.. أثر المغنى فى السينما

46عاما على رحيله ولازال المغني يثير موجات الحنين والنوستالجيا، وهو ما يطرح تساؤلات عدة عامًا بعد الأخر حول هذا الصوت الراسخ الذي يخشاه النسيان، حتى أفلامه في السينما تظل حاضرة بقوة، على الرغم من تغير النسق الزمني وتبدل أحوال السينما بوجه عام شكلًا ومضمونًا. ربما بقاء صورته حية وفاعلة على شاشة السينما يفتح الباب لألف سؤال عن الأسباب، فهل هو نوع من التشبث بجذر يعيننا كمشاهدين ومتفرجين على وحشية أيامنا، نوع من الاحتماء بالقديم الطيب وربما الاستشفاء أيضًا من رتابة وملل يسري في حاضرنا، قد يكون هذا تفسير مقبول تؤكده ملامحنا التي تنعكس عليها حزن خفيف وابتسامة صغيرة، حين نشاهد حليم ورفاقه في فيلم قديم يسحبنا من أعماق حياتنا الواقعية، نحو النور حيث الحياة عفية ومغايرة تمامًا عن التي نعيشها الآن. الأسباب هذه تختلف بشكل كبير عن تفسيرات نجاحه في زمنه، لأن الجماهير حينذاك كانت قد صدقته ووجدت في أفلامه فردوسهم المفقود في الواقع، وحصتهم في الحلم بغد أجمل يغير حاضرهم المُعذب بأسئلة المصير، هذا البطل الأسمر يشبههم بعيونه الغائرة التي تحتمل أكثر من تأويل، وملامحه الشاحبة التي تدل على المعاناة، هو ظلهم على الشاشة ونبض الألم والفرح في زمنهم الذي كان يمر بلحظة ذهبية، هي لحظة التحرر من الاستعمار والخروج إلى أفق الحرية ومحاولة الاستقلال وبلورة الهوية، وأفلامه بحالة أو بأخرى تعبر عن حالة من حالات الخروج من النفق المظلم إلى النور: إكتشاف شاب فقير لموهبته ووصوله إلى الشهرة، رأينا ذلك في "حكاية حب، معبودة الجماهير، شارع الحب"، وحتى في الأفلام التي كان فيها منتميًا إلى أسرة أو يعيش في كنف زوج الأم كما في "أيام وليالي". حالة الصعود التي قدمها في أفلامه كانت تعبيرًا عن حالة صعود مجتمع بأكمله، وهو ما سهل وصوله إلى وجدان الناس، فالمجتمع لحظة بزوغ نجمه كان في حالة اكتشاف للذات، وكان ثمة شيء في صوته حمله إلى السينما مغنيًا في أفلام لم يمثل فيها؛ فتسلل صوته عبر فيلم "مصباح علاء الدين السحري" (1951) إخراج ألفريد ريم ودبلجه إلى العربية أحمد كامل مرسي، غنى فيه عبدالحليم على لسان" سابو" البطل الهندى، وفيلم "بعد الوداع" (1953) إخراج أحمد ضياء الدين، و"بائعة الخبز (1953) إخراج حسن الإمام، "فجر" (1955) إخراج عاطف سالم. حينما كان لابد من أن يكون ممثلًا؛ جاءت تجربته السينمائية متفردة على الرغم من أنها لا تحتوي سوى على ستة عشر فيلمًا فقط، لكنها كرسته واحدًا من فتيان السينما، فتى مختلف ليس لديه تجربة في التمثيل كنجوم السينما الكبار الذين سبقوه، لم يمتلك مثلًا جسارة أنور وجدي أو وسامة كمال الشناوي أو " أُبَّهَة" عماد حمدي أو خفة ظل محمد فوزي، لكنه استطاع أن يصنع شخصيته الفنية التي استقرت في وجدان الجماهير كمثل أعلى يسعون إليه، بينما هو ينحاز لهم ولأحلامهم، بل ويعيد تكوين المسافات بين تلك الأحلام وواقع الطبقة الشعبية المتوسطة التي عبر عنها في أفلامه كبطل ينتمي إليها، هو واحد من ناس هذا المجتمع يجسدهم على الشاشة ويغني لهم وعنهم، وعند هذه النقطة عاش بين عالمي الأغنية والتمثيل؛ فكان له في السينما حياة أخرى. كل الذين بحثوا عن الحب كانوا يجدونه في أفلام حليم، لعلها الملاحظة الأبرز لمتابعي مشواره السينمائي وجمهوره الذي لم يركز في قدرات نجمه التمثيلية، ولم يفتش في القواعد النقدية التي تفرق بين الممثل والنجم، لكنه كان يصدق الأنين الصارخ في صوته والرقة القاسية التي تغلف قصص الحب في أفلامه، وكانوا يتأملونه ويتماهون مع أدواره المختلفة منذ أول أفلامه"لحن الوفاء" (1955) إخراج إبراهيم عمارة، الشباب يرونه انعكاسًا لصورتهم والفتيات تمسكن به كنموذج للحبيب الذي منحهن فرصة حياة مختلفة، فخيالهن يجرفهن ليكن محل البطلة الجميلة المحبوبة، والجميع يتشبث بهذا الاشتعال للحب علي مدار الفيلم، بصرف النظر عن طريقة هذه الأفلام في طرحها للموضوعات أو معالجتها، فكل التركيز كان على حضور العندليب على الشاشة، ما يجعلنا نقول بضمير مرتاح أنه كان له نصيب وافر في السينما، ساعد في تشكيل صورته التي انعكست على محبيه كبطل نبيل ومثالي، لا يختلف عن نظرائه من المطربين عمومًا حتى عالميًا، حيث يبدون في صورة أقرب إلى القديسين، وهذا أمر له علاقة بالحفاظ على نجوميته في عالم الغناء. لكن ما ميز حليم أنه تنوع في تقديم أدواره، فلم يقتصر على تجسيد شخصية المطرب فقط ولم يقدمها بشكل فولكلوري، فإذا رأيناه مطربًا في " لحن الوفاء" (1955) أو "موعد غرام" (1956) إخراج هنري بركات، فإنه قدم دور طالب جامعي في أفلام: "أيام وليالي"(1955) إخراج هنري بركات، "أيامنا الحلوة" (1955) إخراج حلمي حليم، "الوسادة الخالية" (1957) إخراج صلاح أبو سيف، "الخطايا" (1962) إخراج حسن الإمام، وكهربائي في فيلم "دليلة" (1956) إخراج محمد كريم، ومدرس الموسيقى في فيلمي "شارع الحب" (1958) إخراج عز الدين ذو الفقار، "حكاية حب"(1959) إخراج حلمي حليم، وصحفيًا في "يوم من عمري" (1961) إخراج عاطف سالم، وأدوار غيرها خرجت عن الشكل المألوف لأفلام المطربين في السينما المصرية، وتوغلت في الحياة اليومية للناس العاديين.. بطل منهم، مكافح، لا يتبرأ من أهله وحارته التي نشأ فيها بعد نجاحه وصعوده. انحيازه للفقراء واضح وهو مفتاحه إلى قلوب لم تتحمل الصفعة الشهيرة التي تلقاها من عماد حمدي في فيلم "الخطايا". إذن، فنجومية عبد الحليم لم تعتمد على المعايير التقليدية للمغني أو الممثل، بل كان حالة فريدة وملهمة وكاريزما حية فى عقل ووجدان جماهير متعاقبة، شيء أشبه بالصورة الأسطورية التي لا تمحوها الأزمنة، وإلا كيف يمكن تفسير حضوره بهذه القوة حتى الآن؟ فحتى وإن كانت الجماهير الجديدة لا تكتب على ورق الأمس، فإن صدى هذا الأمس لا يخفت.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;