الكوميديا فن النقد وليست السخرية، وكثيرا مما نراه محسوبا على الكوميديا يدخل في حيز السخرية والتنمر، مخالفا بذلك فطرة العمل الكوميدي، لكن مسلسل الصفارة لأحمد آمين يفهم صناعه جيدا طبيعة العمل الكوميدي، فنرى ونسمع في الصفارة صوت الضحك الحقيقي والنقد الاجتماعي الراقي لظواهر خالفت فطرة المجتمع المصري مؤخرا وطفت على السطح وتصدرت المشهد حتى صرنا نتسائل كما تساءل من قبل المفكر الدكتور جلال آمين: ماذا حدث للمصريين؟!
مسلسل الصفارة مأخوذ فكرته عن رواية Sound Of Thunder والتي ذكر فيها الكاتب ما عرف فيما بعد بنظرية تأثير الفراشة، ومعناها أن رفرفة جناح فراشة في الصين مثلا قد تحدث تغييرا في امريكا وأوربا وإفريقيا، ومن تلك الفكرة ينطلق مسلسل الصفارة وهو أن حدثا صغيرا وهو ألم في بطن شفيق ( أحمد آمين) يغير حياته ويمنعه من الحصول على الترقية التي كان يستحقها في الشركة وذلك أدى لتركه للشركة وعمل كمرشد سياحي وهناك استطاع أن يحصل على صفارة الملك توت عتخ أمون ويستخدمها في فكرة العودة للماضي لمدة 3 دقائق فقط لتغيره، فيختار أن يعود للحظة التي طلب فيها من أخيه وجيه (طه دسوقي) أن يحضر له الدواء من العربية، تلك اللحظة التي غيرت حياته في متوالية متكررة، وما كانت تلك الفكرة إلا تكئة حتى يستطيع العمل تقديم وجبته الدسمة من الاضحاك الهادف لابراز سلبيات اجتماعية ونقدها، وكأن صوت الصفارة ما هو إلا إنذار يشهره العمل في وجه كل سلوك معوج أو عنيف كما يفعل الحكم في المباريات الرياضية، هو صوت الصفارة التي تسبق البطاقة الحمراء التي يعلن من خلالها الحكم -المبدع- طرد كل القيم الدخيلة على المصريين، الضحك في الصفارة يجعلنا ننتبه ونرضى بالمقسوم وننقي النفوس من أمراض الطمع والنجاح دون جهد والفهلوة فيما يمكن أن أسميه العلاج بالضحك
ففي أول مرة أراد أن يكون غنيا، فحصل على ما يريد لكنه بلا طعم فلقد أصبح نهما طمعا شرها في كل شيء حتى الطعام وتزوج شيرين ( آية سماحة) التي يحبها، لكنها لم تعد تحبه لأنه مشغولا بجمع الأموال، بينما منافسه علاء (حاتم صلاح) أصبح مقربا من زوجته بشكل مخيف، وحين يكره ما آلت إليه حياته يصفر ويوجه لتلك الأمنية البطاقة الحمراء ليخرجها من حياته، ثم يعرض لفكرة تراود الكثير في زماننا هذا وهو النجاح السريع عبر السوشيال ميديا ذلك النجاح التافه القادم من لاشيء فهو اشتهر باسم ناونو لمجرد أن ظهر في مقطع فيديو تم رفعه على السوشيال ميديا فأصبح بين يوم وليلة ترند، لكنه فارغ ويعيش معارك وهمية كتلك التي نراها يوميا بين أشخاص تافهين بينما يتابعهم الملايين، وأمنية السيطرة التي كان يفتقدها منذ صغره حين كان زملائه في المدرسة يضربونه فنراه وقد صار فتوة يهابه الجميع، وفي كل مرة يعيد الزمن عند اللحظة المفصلية له يصطدم برجل مبتسم اوحين يعتذر له شفيق يرد الرجل ردا مشفوعا بابتسامة وسؤال: أنا راضي .. أنت راضي؟ لينقلنا السؤال لمحور العمل وهو الرضا عن حياتنا وعدم الاعتقاد بأن لحظة سيئة في حياتك قد تغييرها للأبد، ويجعلنا نشكر الله لقد أراحنا من عناء الاطلاع على أقدارنا، وبالتالي أراحنا من مسألة الاختيار من متعدد التي ستبدو صعبة ومربكة.
مشاهد الفلاش باك مع الأب محمود البزاوي جميلة لأنها تعطي استراحة من الكوميديا اللاهثة لتفسر لنا جزء من أمنيات وأزمات شفيق في طفولته فهو يسأل أبيه لماذا أنت لست غني مثل جارنا ليجيب الأب لأن الجار مسافر وتارك لأولاده، ويخبره الأب بمزايا ألا يسافر ويتركه
أحمد آمين قادم للتمثيل من عالم الكتابة فهو بدأ حياته كاتبا ولا زال كاتبا، لذلك فهو لديه شيء يقوله، فيبدو مهموما كأي كاتب حقيقي بقضايا نابعة من مجتمعه يحاول أن يسلط عليها الضوء ويعالجها حتى لو كان العلاج بالضحك، ولقد بُح صوتنا في أن يترك صناع الدراما وخاصة من المنتجين والممثلين النجوم فكرة اختيار الموضوعات للكتاب، ففي الماضي حين كانت الفكرة تنبع من دماغ المؤلف كان هناك دراما حقيقية وكوميديا ناصعة الإضحاك، لماذا لا ندع كل شخص يؤدي ما يجيده، المنتج له دور والنجم له دور والكاتب له دور، وبالنهاية يأتي المخرج ليجدل ضفيرة عمل جميلة في رأس المشاهدين.
هل كل المدح سابقا في مسلسل الصفارة يقول إنه عمل بلا أخطاء ، بالطبع هناك أخطاء لكن الأعمال الجيدة هي التي تجعلك تغفل عن أخطائها حتى مع إدراكك لها، مثل أن تقع في حب شخص فلا تتغاضى فقط عن عيوبه، لكنك تحبها أيضا، ويتحول لجزء (في الجمال منه) بتعبير الافيه الدارج في المسلسل.
وأنتم لو جاءتكم الفرصة هل ستغيرون في ماضيكم أم ترضون بمقدور الله فينا؟! .. بالنسبة لي أنا راضية عن العمل جدا وخاصة في أداء أحمد آمين وطه دسوقي وحاتم صلاح وآية سماحة والعظيمة أنعام سالوسة، وكذلك شركة ميديا هب التي رغم حداثة عهدها بالدراما والكوميديا إلا إنها قدمت هذا العام مجموعة من الأعمال المتميزة تنوعت بين الكوميدي والتاريخي والاجتماعي، وكذلك بقية صناع هذه العمل الهادف من مخرج ذكي يفهم الكوميديا وهو علاء إسماعيل، والكتابة محمود عزت مع أحمد أمين والورشة وموسيقى محمد مدحت، حتى الأغاني الخاصة بالحلقات والتترات كانت موفقة جدا من كلمات تامر حسين وألحان عزيز الشافعي.
وفي النهاية الصفارة مسلسل صُنع ليمنح مشاهديه ابتسامتين.. ابتسامة نابعة من المواقف الكوميدية الضاحكة المكتوبة في السيناريو، وابتسامة أخرى نابعة من الرضا على السيناريو المكتوب لحياتك.