في الوقت الذى نجحت فيه الصين، في تحقيق طفرات كبيرة في تعزيز دورها، على الساحة العالمية، ورسم مستقبلها كقوى دولية بارزة، يمكنها المشاركة في قيادة النظام الدولي، ومزاحمة القوى المهيمنة، وهو ما يبدو في وساطتها الناجحة في الشرق الأوسط، وتمكنها من إنهاء صراع طويل الأمد بين المملكة العربية السعودية وإيران، بالإضافة إلى دخولها على خط الأزمة الراهنة في أوكرانيا، تبدو الأدوات الأمريكية، في مجابهة بكين، محدودة للغاية، في ظل تمسكها بنفس الخطابات النمطية، التي طالما تبنتها منذ ما يقرب من ثمانية عقود كاملة، والتي تدور في معظمها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تحولت إلى ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى وتوجيه بوصلتها نحو الدوران في الفلك الأمريكي، تزامنا مع التنصل التدريجي من دعم "الحلفاء".
ولعل قمة "الديمقراطية" التي عقدتها الولايات المتحدة مؤخرا دليل دامغ، على مواصلة النهج نفسه، القائم على فرض القيم السياسية، على دول العالم، من خلال عولمتها، في الوقت الذي يتسم فيه منافسو واشنطن، بقدر اكبر من المرونة الدولية، القائمة على احترام حرية الدول في رسم مواقفها سواء في إدارة الأمور في الداخل، أو في تشكيل صورة علاقتها في الفضاء الدولي، وهو النهج القائم على ما أسميته في مقال سابق بـ"الديمقراطية الدولية"، والتي تقوم على احترام حرية الدول، وفقا لظروف كل منها سواء الأمنية أو السياسية أو الجغرافية أو الإقليمية، ناهيك عن مواقف بكين القائمة على الدفاع عن مصالح الدول "النامية"، والتي عانت لعقود طويلة من الزمن جراء الاستنزاف المنظم لمواردها، لصالح "المعسكر" المتقدم.
وبين الديمقراطية، في نطاقها العالمي، بالمنظور الأمريكي، من جانب، والدولي، بحسب الرؤية الصينية، من جانب أخر، تتجلى أحد أبرز معالم الصراع الدولي في المرحلة الراهنة، في ظل منظومة القيم التي تسعى واشنطن لتعزيزها، منذ عقود، إلا أنها على ما يبدو تشهد تراجعا كبيرا وملحوظا مع التغيرات الكبير في البنية الدولية في اللحظة الراهنة، خاصة وأن رؤية واشنطن ربما تخللتها حالة من التناقض، في ظل فرضها قمعيا، بنفس الصورة النمطية، على أعضاء المجتمع الدولي، سواء عبر التضييق الاقتصادي تارة، أو العقوبات تارة أخرى، وحتى التدخل العسكري المباشر تارة ثالثة، ناهيك عن ارتباط معايير الديمقراطية، بالنسبة للقوى الدولية الحاكمة، ليست مرتبطة في الأساس في مدى تطبيقها، وإنما في مواقف الدول ومدى ولاءها للقيادة الأمريكية، والدوران في فلكها، وهو ما خلق قدرا من الازدواجية، ربما ساهمت في تراجع المنظومة القيمية الأمريكية، بصورة كبيرة.
في حين تبقى الرؤية الصينية، القائمة على تعزيز الاستقرار الدولي، والإقليمي في مختلف مناطق العالم، معتمدة على مفهوم "الديمقراطية الدولية"، والتي تبدو أكثر مرونة، في التعامل مع المبادئ، بحيث يمكن تطبيقها بنطاقات ومساحات مختلفة بحكم اختلاف الظروف والتهديدات، والبيئات الإقليمية، لتصبح الأولوية ليس للمبادئ الصماء، وإنما لتحقيق "الاستقرار" والذي من المفترض أنه الهدف من وراء كافة الخطابات الدولية والرؤى التي تتبناها القوى المؤثرة في العالم، سواء دول أو منظمات.
وتعد المرونة الصينية، سببا رئيسيا في تعزيز الثقة الدولية بها، في العديد من المناطق، وعلى رأسها الشرق الأوسط، وهو ما يبدو في دورها الكبير في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ونجاحها في الوصول إلى اتفاق، من شأنه إنهاء حالة من الصراع التاريخي، بينما تبقى مساعيها للدخول على خط الأزمة الأوكرانية محل ترحيب كبير من قبل روسيا، وسط انقسام أوروبي يصب في صالح بكين، في الوقت الذي ترفض فيه واشنطن أي دور صيني، رغم عدم امتلاكها لأي أوراق يمكن من خلالها تحقيق اختراق لحل الأزمة الراهنة.
وهنا يمكننا القول بأن المعضلة الأمريكية، تتجلى في الاعتماد على نفس الأوراق التي طالما استخدمتها، لعقود، وعلى رأسها الديمقراطية، لحشد التحالفات وراءها، في الوقت الذي تبدو فيه الغالبية العظمى من الدول، وربما حتى المجتمعات داخل معسكرها التقليدي في الغرب، ثائرة على تلك الأفكار النمطية، وهو ما يبدو في الحشود التي باتت تخرج إلى الشوارع، للمطالبة بإسقاط أنظمة جاءت بها الصناديق الانتخابية، وهو ما يعكس حالة من العجز الأمريكي عن مجاراة المستجدات التي بات يشهدها الواقع الدولي الجديد، بينما أصبحت الصين قادرة على ملء الفراغ الأمريكي، فيما يتعلق بتقديم الضمانات الدولية، التي من شأنها حل الأزمات أو التعامل المباشر معها، سواء فيما يتعلق بالصراعات القائمة أو القضايا المستحدثة، على غرار التغير المناخي أو الأوبئة.