مواطنة أمريكية من أصل يوناني ولدت في الإسكندرية في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وعاشت فيها فترة تكوينها الأولى حتى سنوات الجامعة، واحدة من جالية كبيرة العدد تزيد على ربع مليون شخص يوناني يعيشون في تلك المدينة العالمية التي عدها البعض مركزا للعالم في ذلك الوقت.
لم تكن جولي هيل حالة فريدة، بل يمكننا عدها نمطا متكررا يعبر عن علاقة فريدة بين مصر واليونان، علاقة لا تقف عند حد التطورات السياسية، أو حتى مجرد العلاقات الطيبة بين شعبين، بل هي العلاقة التي يمكن اعتبارها جذرا مكونا لثقافة البلدين، هو الجذر الذي يعلو فوق المراحل التاريخية المتغيرة، بالصورة التي تجعل أولئك اليونانيين الذين عاشوا في الإسكندرية يعتبرون أنفسهم مواطنين سكندريين، مصداقا لرؤية طه حسين حول المجال الثقافي المتوسطي الأولى بالرعاية كما صرح في كتابه المهم مستقبل الثقافة في مصر، وبالصورة التي تجعل عددا من المؤرخين المصريين يحكون عن وقائع نزول اليونانيين في مظاهرات ثورة 1919 مستغلين القوانين الخاصة بحماية الأجانب ليكونوا دروعا بشرية تحمي المتظاهرين المصريين.
عبرت جولي هيل عن تلك العلاقة في سيرتها الذاتية التي أسمتها اسكندريتي، التي قام المركز القومي للترجمة مؤخرا بنشرها، والتي عبرت فيها عن سنوات تكوينها الأولى وتفاصيل طفولتها ومشاعرها الشابة في تلك الفترة، وكيف تعاملت هي وعائلتها مع ذلك الوطن الذي عاشوا فيه وأحبوه كما أحبه أجدادهم، إنها التفاصيل الدقيقة التي تكون رؤية الإنسان حين يرصد بحب واضح ماضيه الذي أحبه وأحب أن يستمر، وهو ما يظهر في المقارنات التي تعقدها المؤلفة بين الإسكندرية في الماضي، وتلك التي عادت إليها الآن لتراها وترصدها مرة أخرى.
لكن هذه السيرة تشير إلى عدد من النقاط المهمة التي يجب التوقف عندها، الأولى هي الإشارة إلى أن كوزموبوليتانية الإسكندرية في العصر الحديث قد بدأت مع افتتاح قناة السويس في العام 1869، حين صارت وجهة لكل الحالمين بالعمل والثراء في العالم، وانتهت بتأميم القناة الذي كان إيذانا برفض الوجود الأجنبي بأشكاله كافة على أرض الوطن الذي بدأ في تكوين قوميته الخاصة.
والنقطة الثانية هي أن الجاليات الأجنبية الكثيرة التي عاشت في الإسكندرية عاملت نفسها من منطلق أجنبيتها فلم تذب في المجتمع المصري، بل إن هذه الجاليات نفسها اختلطت ببعضها بحدود، فظل اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون منعزلين بصورة ما بعضهم عن بعضهم، فاحتفظوا بلغاتهم وعاداتهم الخاصة داخل هذه الدوائر، غير أن هذا لم يمنع الأبناء من الإحساس بانتماء ما لهذا الوطن المصري.
إن موقف الطفلة جولي هيل عندما استنكرت أن تكون الطوابع المصرية مكتوب عليها بالإنجليزية يوحي بانتماء ما ربما سيكون جذرا وطنيا مهما يجعلنا نثمن كل محاولة للعودة إلى تلك الجذور، تلك العودة التي تبحث عن التشابهات الموجودة بكثرة بين الثقافتين والحضارتين المصرية واليونانية، والتي يمكنها أن تعيد بناء الجسر مرة أخرى بين هذين الشعبين اللذين يبدوان أكثر قربا وتفاهما من شعوب أخرى كثيرة تعيش على سواحل البحر المتوسط، وربما تكون الثقافة هي العامل الأهم الذي يمكن استغلاله للبحث عن مواطن الشبه تلك والإفادة منها في المستقبل، بالقدر نفسه التي كانت فيه أرضية ثابتة لعلاقة قوية في مراحل كثيرة من تاريخنا المشترك.