أتذكر ذات مرة التقيت الفنان حمدي أحمد، وكان هو الصعيدي الذي يعتز بانتمائه إلى سوهاج ومجتمع الجنوب بأكمله، ومن هذه الزاوية وجدته محتدًا، غاضبًا ومستنكرًا لصورة الصعايدة، كما تقدمها الدراما التليفزيونية، على الرغم أنه في تلك الأثناء كان يعرض أحد المسلسلات الشهيرة، الراسمة لأجواء أخاذة ومدهشة في الصعيد، رآها الفنان الكبير أنها لا تنتمي للواقع أو الحقيقة.
تفهمت سخطه وضيقه، خصوصًا وأنني عملت منذ بداية مشواري الصحفي مع "فيلق صعيدي مُعتبر"، في جريدة الأسبوع برفقة مجموعة كبيرة من الزملاء الصعايدة الذين أكن لهم كل الاحترام والتقدير، والذين جاءوا القاهرة من أماكن مختلفة تتوزع بين أول الصعيد وآخره، ولم أبصر بينهم من يتحدث ويتكلم باللهجة النمطية للجنوبي كما ينطق بها شخوص المسلسلات، بل لمست ثراء لغويًا يكشف عن ثقافة عميقة ويعود في تقديري إلى جذورهم وانتسابهم لتراث ثقافي عريق في جغرافيا مميزة، وتاريخ مترع بالأسرار، كما لاحظت أنه لا توجد لهجة واحدة معممة وهذا جزء من سحر الصعيد الذي لم تلتفت إليه الدراما إلا قليلًا، وهذا أيضًا قد يفسر انفعال حمدي أحمد وغيظه لأن الخيال الدرامي لم يكترث بالواقع وبناسه كبشر من لحم ودم وليس كجبل يختفي وراءه وفي طياته شخصيات كاريكاتورية.
أستعيد هذه التفصيلة في لقائي بـ حمدي أحمد، وأنا محصنة بأسماء تنويرية كبيرة من الجنوب أثرت في تاريخنا المصري عمومًا، على مستويات عدة سياسية واقتصادية وفكرية وفنية، منها: رفاعة الطهطاوي، طه حسين، عباس العقاد، المنفلوطي، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، يحيي الطاهر عبد الله، الأبنودي، عبد الرحيم منصور، أحمد منيب وجمال عبد الناصر وغيرهم كثيرون، بينما كنت أتابع فيديو "تيك توك" انتشر الأيام الماضية لفتاة صعيدية " maivolnageh"، إذ تقول الفتاة: "ليه يا جماعة مُصرين تطلعونا إن الصعايدة متخلفين، ومبيفهموش وبيضربوا بعض بالنار؟.. عايزين تعملوا مسلسل عن الصعايدة.. تعالوا عيشوا وسطينا واتكلموا معانا، وعمري ما شوفت صقر عندنا وحد ماشي بصقر على موتوسيكل.. الدنيا تطورت ما تطورا في نقل الصورة عننا".. الفتاة هنا هي أيضًا تعترض على الصورة النمطية للصعيدي: لهجة وملابس وسلوك، كما قال لي حمدي أحمد من قبل:" مش دي معيشتنا ولا بيوتنا ولا ملابسنا.. الرجالة عندنا مش ماشيين بالبنادق، ولا الستات عندنا كل واحدة فيهم لابسة كيلو دهب".
إنه ما أشار إليه كذلك الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في أحد حواراته، حين قال: "هناك مناطق غنية وأخرى فقيرة، ولكن الفقر سمة غالبة على مناطق الصعيد، فمن الظلم أن يكتب المؤلفون عن صعيد واحد".
على هذه الخلفية، استأنف مشاهدتي لمسلسلات تدور أحداثها في الصعيد، ولا أخفيكم سرًا كان ذهني مشحونًا بكم من الأفلام والمسلسلات التي تناولت الشخصية الصعيدية مظهرًا وجوهرًا، ما اتكأت على النوع الكوميدي والإضحاك، وما خاضته في تفاصيل واقع يئن تحت وطأة أزمة اقتصادية أو أزمة وجودية، من شخصية عبد الرحيم بيه كبير الرحيمية قبلي، أو إسماعيل ياسين في "العتبة الخضراء" إلى هنيدي في "صعيدي في الجامعة الأمريكية" وهاني رمزي في "صعيدي رايح جاي".. من إبراهيم عبد الله نموذج الإنسان الممزق بين إحباطه وحلمه، جذوره الصعيدية وتطلعاته الباريسية في "أديب" طه حسين، إلى قيود التقاليد القاتلة في "البوسطجي"، وثِقَل الحياة ومشقتها في "الطوق والإسورة"، وطابع شعري وملحمي آسر في "عرق البلح"، أو حتى الصراع الطبقي بزاوية خاصة في فيلم مثل "صراع في الوادي" ليوسف شاهين.. وغيرها من أعمال كثيرة حضر الصعيد فيها كموضوع نوعي أو كموقع تصوير فريد في سحره.
ربما تكون الدراما التليفزيونية هي الأكثر تقديمًا للجغرافيا الصعيدية، لكن أغلبها جاء سطحيًا، مفتقدًا جسارة التوغل الفطن للمكان وناسه، فتم التركيز على قضايا الثأر والدم المهدر شكليًا، دون أي اهتمام بتغيير الصورة النمطية الموغلة في تصوير الصعيد كبيئة منذورة للجهل والرجعية، وتجاهل عاداته وتقاليده الحقيقية وتأصيل تاريخه وعمارته القديمة والحديثة وكذلك أزيائه، ناهيك عن لهجاته المتنوعة بتراكيبها وإيقاعها وجرسها المنغم، والتي تختلف من منطقة لأخرى، فالمنيا غير سوهاج غير الأقصر وقنا أو أسوان وهكذا، فاللهجات في الصعيد انعكاس لهوية المكان المفعم بالفرعوني والعربي والقبطي، وجزء من ثقافة جبل ووادي وشمس صريحة تلفهما، وليست أن يتحدث الممثل بالجيم بدلًا من القاف أو أن يعطش الجيم أو يحولها إلى حرف الدال.
الأمر يحتاج إلى جهد كبير من الممثل، فلابد أن يتعرف على طريقة حياة الشخصية والمؤثرات التي تشكل طريقة نطقه، وإلا سيكتفي باتباع القاعدة التي أشار إليها أكثر من ناقد، وهي أن الممثلين يتعلمون اللهجة الصعيدية من التليفزيون وليس من الواقع، وهي قاعدة لا تؤدي إلى شيء سوى التزييف وغضب أهل الجنوب الذين لا يجدون أنفسهم في أغلب المسلسلات، بالطبع هناك استثناءات موجودة إلى حد كبير في أعمال مؤلف مثل عبد الرحيم كمال كما في "الرحايا" أو "شيخ العرب همام" وغيرهما بإيغاله في نوعية درامية شديدة الصلة بالمكان وأهله، وكذلك ناصر عبد الرحمن الذي شاهدنا له من قبل "جبل الحلال"، ويطالعنا هذا الموسم بـ"ستهم" مع المخرج رؤوف عبد العزيز، حيث نرى الصعيد من زاوية امرأة تكافح من أجل الحصول على حقها من مخالب تقاليد تخالف آدميتها، ولا ينس المؤلف أن يضفي بعضًا من نزعته الصوفية التي تظهر بوضوح مع صوت الشيخ ياسين التهامي.
يستلزم الأمر هنا أن نتوقف قليلًا عند مسلسل "عملة نادرة"، كنمو ذج آخر لدراما تدور في مجتمع صعيدي، وترتكز على أكثر من محور درامي، فإنه بداية يثير الخيال ويبدو كأنه فصل من فصول الفيلم الأشهر "الأب الروحي" إخراج فرانسيس فورد كوبولا، جمال سليمان هنا يذكرنا بـ فيتو كورليوني، عبد الجبار هو رئيس العائلة المتحكمة في المصائر على الطريقة الصعيدية المثقلة بدلالات عدة، يتحدى في أجواء المؤامرات والقتل عائلة أبو عصاية التي يترأسها كمال أبو ريا، العائلتان يتنافسان على النجع، والنجع عجيب ومدهش بديكوره المثير لتأويلات القوة والاستحواذ، ومواز للفضاء الأوسع والأكثر رحابة حين تخرج الكاميرا إلى شوارع المدينة، إنه مصنوع ليحقق هذه الثنائية الحصار والتوق إلى الإفلات، أما رئيسا العائلتين (جمال وكمال) كل منهما استطاع التقاط تفاصيل شخصيته بمهارة تساوي تجربتهما التمثيلية الكبيرة، وتساوي فهم الحكاية وإدراك الشخصيات والقدرة على تفكيكها، واللافت أن جمال سليمان بدا كأنه رسخ نفسه في أدوار الصعيدي بلهجة مضبوطة إلى حد كبير وربما أكثر من آخرين.
المحور الثاني يتعلق بصراع امرأة في مجتمع منغلق لتحصل على حقها في ميراثها وميراث طفلها من زوجها، وهو صراع مرير ويكاد يكون من التابوهات التي يصعب الحديث عنها في هذا المجتمع، وتجسد نيللي كريم الدور بتحولاته المختلفة من الحب والفرح إلى الألم والخيبات والخوف، تفعل ذلك بدراية بنفسية المرأة وبحثها في أعماقها عن وسيلة للخلاص، وخسارتها في المواجهة أمام وحشية المحيطين بها، خصوصًا شقيق زوجها المتوفي والذي يجسده أحمد عيد بتغيير شامل سواء في شكله أو أسلوبه وأدائه التمثيلي.
المحور الثالث يتعلق بمعاودة التعاون بين المؤلف د. مدحت العدل والمخرج ماندو العدل، ليشكلا سويًا تجربة جديدة ناضجة، هذه المرة ترسم ملمحًا من تراجيديا الواقع المصري في الصعيد، وتطرح حلقة من حلقات المجتمع المغلق الذي تتحمل المرأة فيه العبء الأكبر، بل وتدفع الثمن الأعظم، وبقدر هذه الخشونة الواقعية، فإن ثمة أمل يتسلل من الحياة الضيقة وهو ما ننتظره في الحلقات المقبلة، كما نتطلع أكثر إلى حالات درامية أخرى تعبر عن الصعيد وتصوغ حكاياته في ترجمة بصرية متكاملة للمعاناة والانتصار وحق العيش بإنسانية.