للفن أدوار عديدة، لا تنحصر فقط فى أن يفتح عكّا أو يُفسّر الغامض ويقرأ الطالع كما قد يتصوّر البعض أو يُحبّون سجنه فى معارفهم الخاصة. وخناقة الفن الهادف وغير الهادف قديمة، ومقابل مفهوم «الالتزام» الذى وضعه «سارتر» هناك رؤى مُعتبرة تضع الفن نفسه غاية أولى وعُليا للعبة الفنية.. باختصار يجب أن تتحقّق المُتعة فى الفن أيًّا كانت رهاناته الجمالية، لكنها يُمكن أيضًا أن تكون رهانًا فى حدّ ذاتها!
ربما يكون محمد رمضان أكثر من تُثار معارك حول أعماله، حقيقيةً كانت أو مُختلَقة.. أحدث الجولات مسلسل «جعفر العمدة» الذى يحظى باهتمام واسع، بين افتتان عميق ومُتابعة يُغذّيها نَهَم جمهور عريض، ومُلاحظات فنية وثقافية وربما شخصية يُسجّلها آخرون. المُحبّون ينشغلون بالحكاية وتصاعدها بعيدًا من التنظيرات والمداخل النقدية، والمُختلفون يُحاولون تفكيك زخم التجربة على أرضية ظاهرها المنهجية وباطنها الانفصال عن جوهر اللعبة، إلى حدِّ أن تجد فريقا ينزع «الدرامية والفنيّة» عن العمل بالكُليّة!
منذ وضع الإغريق معمار الدراما كانت البطولة للعبة الاستعارة.. أن تستعير حكاية وشخصيات وتُعيد ترتيبهم فى فضاء مُخطَّط مُسبقًا، ورغم قرون التطوّر لم تختلف عناصر الصنعة: الفكرة والحبكة والشخوص والحوار. كلمة دراما نفسها تعنى «فِعل»، وكان من دلالاتها اعتماد المفارقة أو النقلات الحدثية الكاشفة، واختزالا فإن «جعفر العمدة» دراما مُستوفية الشروط، تُخاطب طبقات مُتعدّدة من المُتلقّين وفق تقنيات بصرية وخطابية تُراعى تفاوت السياقات الاجتماعية والمعرفية والجمالية لجمهوره المُستهدف، وحتى الآن يُمكن القول إن الرهان أصاب أهدافه كاملة!
المدخل عند محمد سامى، كاتب العمل ومخرجه.. «جعفر» ثالث تجربة ناجحة له مع محمد رمضان بعد «الأسطورة 2016» و«البرنس 2020»، والأول تحديدًا كان ظاهرة كاسحة وقتها وإلى الآن فى حجم المُتابعة وتحوّل شخصيته الرئيسية إلى مستوى يُقارب البطل الشعبى.. «التالتة تابتة» كما يقول المثل، ونحن أمام ثنائى لديهما كيمياء وتفاهم أو يملكان وصفة مضمونة لمخاطبة الجمهور، التبسيط أو عدم الالتفات إلى هذا المدخل يخصم كثيرًا من موضوعية أية محاولة لقراءة ملامح التجربة.
دراما «جعفر العمدة» تذهب إلى أهدافها من أقصر الطرق، لا تنشغل بأية تعقيدات ولا تحاول تعلية أبنية ضخمة هندسيًّا لكنها قد لا تجد المُشترين والسكّان.. هكذا يشتغل المسلسل على حبكة بسيطة وتقليدية للغاية، ويقتصد فى شخصياته مع مَسحة لا تخلو من النمذجة والتنميط، ويُطوّر مساره الخطّى بمفارقات وانتقالات تبدو مُتوقّعة وفى المتناول تمامًا، نظريًّا قد لا يبدو أن العمل يُقدّم جديدًا على أى من مستويات الصنعة، وعمليًّا فإنه يصل إلى غايته عبر براعة توظيف هذا العادى فى طبخة لها رائحة جذابة ومذاق حرّيف كأكل الشارع!
يملك «سامى» وصفة واضحة لصناعة عمل جذّاب، تقوم على كتف نموذج البطل الشعبوى أو «سوبر هيرو الشارع».. شخص ابن بلد، يُظلم لكنه لا يفقد ثقته فى نفسه، قادر على هزيمة الآخرين والظروف وأى خصم ولو فاقه قوّة ووجاهة، ورغم «إيده الطايلة» فإنه محبوب وعطوف ورقيق القلب وليّن الجانب وبار بأهله. صناعة هذا النموذج تتأسّس لدى محمد سامى على العاطفية والميلودراما، فيبدأ العمل من تيتر ملىء بالحنين وبكائية على لسان جعفر المُعذّب بمتاعبه والحالم بعودة ماضيه البسيط، وكذلك يصبح خطف ابنه الرضيع أكثر قسوة وإيلامًا من عدم إنجاب شقيقه سيد، أو من وفاة وسجن ابنى غريمه حمادة فتح الله، وفوق ذلك يتفانى فى التخفيف عن أهله بتلفيق موت طفله المخطوف، فأن يحرمك الله من الإنجاب أو تعرف لأولادك قبرًا أهون من أمل اللقاء بعد الضياع، ولا أحد يتحمّل تلك المعاناة سوى جعفر!
يبتكر العمل إيقاعا يُوازن بين التأنى والتشويق، بين الاقتراب نفسيًّا من الشخصيات والحفاظ على مستوى من التدفق الحكائى اللاهث، لكن جاذبيته الأساسية تنبع من عناصر تتصل بنفسية المُتلقّين، فالتلصّص على أسرة «نموذج» يتوفر لها المال والجاه والحياة الهادئة أمر مُغرٍ، وخلق سياق من التعويض فى صورة البطل الثرى المُعافى القوى المهاب محبوب النساء دون ميزة استثنائية أو أفضلية اجتماعية أو تعليمية يُحقّق الإشباع للمُتفرّجين الذين يمارسون أحلامهم فى استعارات الدراما.. تلك الصيغة تُعنى بإنتاج صورة نمطية تُغذّى خيال المُتلقى، وفى سبيل ذلك قد يهتز بناء الشخصيات الضدّ، أو تمرّ على الدراما ثغرات أو أحداث منزوعة الدوافع أو غير مُبرّرة، كأن تغيب أية معلومة عن تجارة جعفر ونشاطه ومصادر ثروته الضخمة، أو يبدو التأسيس للصراع مع «فتح الله» ضعيفًا وغير مُقنع، أو تحوّلات «دلال» وهروب «بلال» المتكرّر وشخصية الراقصة وابنتها المُقحمتين لتوفير مسرح للقاء الابن، ومصادفة أن يعيش مع هذا الابن دون علمه.. المنطق ليس السؤال الأساسى، وكل التفاصيل تعمل فى خدمة حالة التشويق وتخليق أسطورة البطل المدهشة من فرط عاديتها!
تكتمل الخلطة بموسيقى خالد حماد وما اعتمدته من أجواء ملحمية تُترجم حالات الكشف والتصعيد النفسى وخلق مستوى من التشويق، مع اعتماد الوتريات واللعب بـ«تيمات عاطفية» للتأثير على المتلقى أو شحن مشاعره وتوجيه موقفه من الدراما.. بدا ذلك واضحا فى اختلاف مستوى توظيف الموسيقى بين عائلة العمدة وخصومها من «آل فتح الله» وغيرهم. وانحازت صورة نزار شاكر إلى الجمالية والتكوينات الثرية بصريًّا بتعدُّد مصادر الإضاءة ومستويات تدفقها بدرجة تُبرز معمار اللقطة وتستكمل درامية الحدث، بينما راعى المونتاج طبقات الحكاية فكان هادئًا وصبورًا فى مشاهد الحكى والاسترسال والأجواء العائلية، ومشوّقًا ولاهثًا فى المعارك والمطاردات، فما بين «قلم المخرج» و«مقص المونتير» ظل الإيقاع مشدودًا إما ببهارات الحكاية والحوار أو بتنوّع وانتقالات الصورة.
التمثيل أهم مكونات الوصفة، حدث ذلك فى الأسطورة والبرنس سابقًا.. يهتم محمد سامى دائمًا بالشحن العاطفى ومبالغات الأداء، ويُوظّف عناصره التمثيلية وفق قدرتها على تغذية حالة الحشد النفسية وتصعيد المباراة مع الآخرين.. وفق سرّ الخلطة كانت هالة صدقى لامعةً للغاية، ومى كساب ولبنى ونس ومنة فضالى، وتفوّق أحمد فهيم على الجميع بأداء ميلودرامى يُطابق شخصية سيّد ويبرز بالتناقض استثنائية جعفر.. ويُحسب للعمل أنه منح مساحات مُلفتة لوجوه شابة، أبرزها: عماد صفوت وأحمد عبدالله ولمى كتكت، وإجمالاً حقّق «جعفر العمدة» ذيوعًا وانتشارا واضحين للغاية، منحازا للتسلية والترفيه كأحد أهم رهانات الفن، ومؤكّدًا أن «سامى ورمضان» بينهما كيمياء واضحة، وأن لديهما وصفة مُجرّبة لصناعة «سوبر هيرو» من الشارع، قادر فى غالب الأحوال على حجز مساحته لدى المشاهدين وعلى إحراز النجاح!