لو كان للقلم صوت لقال عجزتُ عن الكتابة؛ فأنَّى لقلم أن يكتب عن رجل وافق قولَه قولُ الحق؟! رجل جمع بين أمرين قد يظن بينهما التناقض: البأس والرحمة، ولكنّ شخصيته حلت هذا الظنّ وبينت أنهما يجتمعان فى شخص واحد، وهو الفاروق عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-.
فهو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوى القرشي، قيل فى مولده إنه ولد قبل البعثة بثلاثين سنة، وقيل غير ذلك.
وذكر الحافظ الذهبى: أنه أسلم فى السنة السادسة من النُّبُّوة وله سبعٌ وعشرون سنة.
وصفه: كان طويلًا جسيمًا، أصلع أشعر شديد الحمرة، اجتمعت فى شخصيته مجموعة من الخصائص والمزايا، فهو الشجاع الحازم الصريح، المطيع الغيور، المحب للنظام، المؤمن بالواجب والحق، الموكل بالإنجاز، بعيد النظر، واضح الرؤية، الموفق فى قوله وفعله، وعلى حدّ قول الأستاذ العقاد: وهذه الخصائص كلها واضحة فى عمر-رضى الله عنه-، وعمر وحده واضح بين أمثاله فى هذه الخصائص جميعها، حتى ليخيل إلينا لو أنّ أحدا مولعا بتأليف الألغاز سأل عن عظيم فى الإسلام والعروبة، متصف بجميع هذه الخصائص على أصدق وأبرز حالاتها، لكان الجواب الواحد عن سؤاله اسم: عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-.
وكفاه رضى الله عنه قولُ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو كان بعدى نبيّ لكان عمر»، وقوله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وقوله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: «اللهم أعزَّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليك، عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام»، فهو رضى الله عنه وأرضاه حبيب الله، وهو الذى وافق قولَه قولُ ربه فى بضعة عشر موضعًا، فهو الذى قال: «لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى»؛ فنزلت الآية بذلك، وهو الذى قال: «اللهم بيِّن لنا فى الخمر بيانًا شافيًا»؛ فنزل تحريمه.
ومن كلامه رضى الله عنه: «القوة فى العمل أن لا تؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرةٌ علانيةً، واتقوا الله -عزّ وجلّ- فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتّقِ الله يقِه».
وقيل له: فلان فاضل لا يعرف من الشَّرِّ شيئًا، قال: ذاك أوقع له فيه، وكان له مجلس شورى يضم العلماء، وأصحاب العقل الراجح، ولم يكن ينظر لنسب أو مكانة أو شرف مَن يختاره، بل كان يختار الأصلح والأنسب.
ومن عظيم فقهه -رضى الله عنه- أنه جمع المسلمين على صلاة التراويح، ووضع التاريخ لهم من الهجرة النبوية، وقد كتب كتابًا عظيمًا فى أصول القضاء لسيدنا أبى موسى الأشعري، ومما جاء فيه: «أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف فى حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادَّعى، واليمن على مَن أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهُدِيت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أشبهها بالحق».
وفى هذا الكتاب تأسيس لأسس القضاء، فمن هذه الأسس: التوثيق، والتحري، والمساواة بين الناس فى مجلس القضاء، وعدم الأخذ بالكلام المجرد، وإعمال العقل فى ما بين الأشباه والنظائر.. وقد شرح ابن القيم هذا الكتاب شرحًا وافيًا فى كتابه «إعلام الموقعين».
ومن بديع فقهه: أنه قد وضع قيدًا للملكية الفردية إذا استعمل الشخص ما يملك فى ضرر الغير، فقد أراد الضحاك بن خليفة، أن يمر بخليج له فى أرض محمد بن مسلمة؛ ليسقى به أرضه، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعنى وهو لك منفعة، تشرب به أولا وآخرا ولا يضرك؟
فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يخلى سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقى به أولًا وآخرًا وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به، ولو على بطنك؛ فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك.
ومنه أيضا: أنه حكم بالدية على قوم أتى لهم رجل فطلب الماء، فلم يعطوه فمات.
والكلام عن سيدنا عمر وفقهه يطول ويطول، وأرجو أن ندرس نظرياته فى الإدارة والتنظيم فى جامعاتنا.
والله الموفق.