ينبغي أن يكون مفهوما أن الممثل لا يمكن أي يقنعنا بما يفعل أو يجعلنا نستجيب لكل ما يقوله على الشاشة بمجرد اكتفائه بإلقاء كلام الشخصية، دون أن يعبر ذلك الكلام من تفاعل داخلي صادق لابد أن تعكسه كل وسائل التعبير التي يملكها، وذلك وفقا لما ذكره (ستانسلافسكي) وهويخاطب تلاميذه: (فن هدفنا ليس حياة بشريه بل إبرازها في قالب فني، لأنه ليس على الممثل أن يعيش في صميم دوره فحسب، ولكن يجب أن يبرزه ويعطيه المظهر الخارجي، ولإبراز الحياة الداخلية الدقيقة يجب أن تلاحظ ما هو جسماني وصوتي معني بعناية وبدراسة دقيقة يجب أن تبرز نتيجة ذلك أدق المشاعر بمنتهى الحساسية والاخلاق.
ونجمنا المصري المتألق في رمضان الحالي (آسر ياسين) هو واحد من الممثلين الأكفاء، حيث أبدى تفاعلا داخليا صادقا كما تعكسه كل وسائل التعبير التي يملكها، ولأن لكل ممثل طريقته فى التحضير للدور وإعداد نفسه لتجسيد الشخصية، لذا فكما يبدو لي من أدائه في مسلسل (الكتيبة 101) هو من هؤلاء الذين لايكتفون بقبول الدور المرسوم كما هو فى النص بل يحللون الشخصية ويحاولون اكتشاف منبعها، خلفيتها، ثقافتها، أسلوب حياتها، رغباتها، مخاوفها، دوافعها، ماضيها، حياتها العائلية، نوعية الملابس التى ترتديها، الأشياء التى تقتنيها، الأماكن التى ترتادها، حركاتها المميزة، طريقتها فى الكلام، وجهة نظرها فى أمور عديدة، حتى وإن لم يكن هذا متضمنا فى النص أو أنه مطروح عبر إيحاءات وإشارات عرضية، ويبدو لي أيضا أن (ياسين) يقوم بإجراء بحوث فى طبيعة وسلوك وعلاقات الشخصية التي يجسدها.
ظني أن هذا يبدو واضحا جدا من خلال تجسيده شخصية ضابط المخابرات (المقدم خالد) في مسلسل (الكتيبة 101)، فقد قام بالدور على أكمل وجه، وقد وعى جيدا أن رجل المخابرات المعاصر لا يشبه أبطال قصص التجسس، ويجب أن يكون مستعدا للعمل في ظروف قاسية مختلفة، ومن بين الصفات التي يجب أن يتمتع بها رجل المخابرات، الولاء للوطن الأم، والشعور العالي بالواجب، ويجب أن يكون مثابرا في عمله ويستخدم خلاله النهج الإبداعي غير المعهود، وهذا ما أتقنه (آسر ياسين) في تجسيد رجل المخابرات الواعي بمسئوليته تجاه الوطن، ومن يعمل في المخابرات يجب أن يتمتع بذاكرة ممتازة، وعقلية تحليلية، وأن يكون قادرا على اتخاذ القرارات الصحيحة في المواقف الصعبة، وأن يتحلى بروح المبادرة في الحدود العقلانية، وأن يخاطر بشكل مبرر.
وقد تمتع (آسر ياسين) في تجسيد دور الضابط (خالد) بالقدرة على التركيز لفترة طويلة، ومن بين الصفات الأخرى التي تمتع بها ولا تقل أهمية في عمل عنصر المخابرات، القدرة على التعامل مع الآخرين ونيل ثقتهم (أنظر إليه في علاقته بشيوخ وعناصر أخرى سيناوية تساعده في عمله، فضلا عن تمتعه بالقدرة على تنظيم ذاته، والالتزام بالمبادئ والنزاهة والصدق في العلاقات مع قيادته ومع زملائه في العمل.
عندما يتطلب الدور أن يؤدى الممثل شخصية تاريخية مثلا، فيتعين عليه ان يتعرف على تلك المرحلة من خلال القراءة، ويمتلك معلومات عامة عن البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، أن يدرس العادات والطباع والملابس، أن يحلل الصراعات والعلاقات السائدة آنذاك، وفى كل الاحوال لابد أن يثرى المعرفة بتشغيل المخيلة، فالمعرفة وحدها لاتكفى، وهو هنا في (الكتيبة 101) يؤدي شخصية رجل المخابرات التي تنطبق عليها شروط الشخصية التاريخية خاصة فيما يتعلق بالبنية العسكرية، ولهذا نراه قد لجأ إلى خاصية التحول، وهى خاصية أساسية للتمثيل، إنه انسلاخ عن الذات وتقمص للآخر (الشخصية)، حيث يلتحم بالشخصية فى مستوى سيكولوجى عميق غير أننا نعى حضوره، ونشعر بأن هذا الحضور يضاعف ويحدد فهمنا للشخصية.
آسر ياسين الممثل سعى في تجسيده لشخصية (المقدم خالد) إلى التماهى والتطابق مع الدور، حتى وإن كان متعارضا مع ذاته الحقيقة، إنه يكيف ذاته ويلج الدور ليقطن فى الشخصية، وأثناء ذلك يقوم بتحويل نفسه ليس جسمانيا، كمظهر وانتحال حركى وصوتى، فحسب، بل أيضا ذهنيا وروحيا، بحيث يبدو مختلفا تماما، وهنا لابد لي من الإشارة إلى انتهاج (آسر) لمنهج (روبرت دى نيرو) الذي يبلغ التحول مداه.. خارجيا (جسمانيا وداخليا) روحيا إذ يمتزج بالشخصية حتى يصبح هو الشخصية وهو يمتلك طريقة فريدة فى الإعداد والتحضير والغوص فى أعماق الشخصية والنتائج التى يتوصل اليها غالبا ما تكون مدهشة ومثيرة وصادقة.
لكن التحول ليس عملية سهلة وسريعة، فالممثل لايملك أداة سحرية يمكن بواسطتها تغيير الشخصيات متى وكيف يشاء، ويكشف الممثل الايطالي (فتوريو جاسمان) عن شىء آخر؟: التحول أو تقمص ذوات أخرى، ليس حالة طبيعية بالنسبة للممثل ولهذا السبب لاينبغى للممثل أن يملك روحا، بل يجب أن يكون قادرا على انتحال هويات مختلفة، ولهذا بدا (آسر ياسين) قادرا على امتلاك هويات مختلفة في تجسيد دور رجل المخابرات.
هناك ممثلون يجسدون الشخصية بطريقة مباشرة وغير معقدة، ومع ذلك نحس بالصدق فى أدائهم، مثل (آسر ياسين) في (الكتيبة 101) حيث أظهر قدرة عالية على فهم الشخصية وتوصيلها ببراعة واقناع، وذلك انطلاقا من أنه يتعين على الممثل أن يدع الشخصية تتعايش مع ذاته، أن تكون جزءا منه من كيانه، لا أن تكون غريبة وشاذة ومستقلة، الممثل لايستطيع أن يكون صادقا ومقنعا فى دوره إن شعر بنفور أو كراهية للشخصية التى يؤديها، وحتى لو اتخذ موقفا محايدا إزاءها، فإن خللا ما سيظهر جليا للعيان، لكن (آسر ياسين) أحب الشخصية وشعر بأنها تمثل جانبا منه الظاهري أو الخفى، وحتما هناك جوانب مشتركة بين ذاته وهذه الشخصية، ربما ليس فى السلوك لكن فى حركة ما، فكرة ما، طموح ما، اتصال حميمى بشىء ما.
يسهل التمييز بين نوعين من الممثلين: الممثل الخلاق والممثل الدمية، والاختلاف بينهما لايكمن فى الطاقة التعبيرية عند كل منهما، بل أيضا فى درجة الحساسية تجاه الشخصية خاصة، والتمثيل عامة، كذلك القدرة على الابتكار، الاعتماد على المخيلة وتوظيفها بشكل دائم، السعى المستمر لتطوير الأدوات والامكانات، وقد بدا لي أن (آسر ياسين) ممثلا خلاقا يعى جيد طبيعة الدور الذي يقبل عليه والظروف المحيطة بالشخصية التي يجسدها، فيقوم بدراستها جيدا على المستوى الداخلي والخارجي والملامح المخابراتية، وأدرك في (الكتيبة 101) أن رجل المخابرات ليس كأي رجل، ووظيفته تختلف تماما عن الوظائف الأخرى، بما فيها من سرية وكفاءة ومهارة ، مثله في ذلك مثل الوظائف التي تحتاج إلى مهارات خاصة جدا.
ومن أهم الصفات التي تمتع بها رجل المخابرات (المقدم خالد) الذي جسده (أسر يا سين) بطريقة إبداعية أنه يمتلك مجموعة من المهارات العقلية التي تختلف عن الإنسان العادي، وفقا للدور الذي يقوم به داخل منظومة المخابرات متعددة التخصصات والمهام ، مثل الأقسام المعلوماتية والتحليلية والخدمة السرية التي تعمل ضمن منظومة كافة الأقسام وغيرها .
وأدرك في الوقت ذاته أنه لابد وأن يكون لرجل المخابرات مجموعة من المواهب، مثل الحفظ والرسم، ثم تتكون لديه بعد ذلك مجموعة من الخبرات التي يكتسبها من خلال عمله وتعدد الأقسام التي يتعامل معها، ومن ثم أثبت (ياسين) أن رجل المخابرات ليس سوبرمان ، ولكنه يتمتع بذكاء شديد ، حيث أن الذكاء في هذا المجال أهم وأقوى من العضلات، رجل المخابرات لابد أن يكون هادئا جدا، ولا يكون شديد التأثر بما حوله وهى صفة مهمة جدا، وخصوصا في المجتمعات منفلتة الانفعالات (الجماعات الإرهابية)، فلابد أن يكون لديه ثبات انفعالي طوال الوقت، وهو ما يتم تدريبه عليه بعد وضعه تحت ظروف قاسية، وزيادة قوة تحمله تحت أي ضغوط يتعرض لها؛ حتى يتعلم الثبات في أحلك المواقف، بحيث يظل يقظا وثابتا، وبذلك يتمكن من اتخاذ القرار الصحيح مثلما فعل (آسر) في كل عمليات المداهمة لأوكار الإرهابيين في سيناء ؛ لأن الحماس هو نوع من الانفعال الذي يجعله لا يتمكن من اتخاذ القرار الصائب
ومن هنا - كما لايبدو - فقد تدرب طويلا على أداء شخصية (المقدم خالد) التي اتسمت بصفات لابد أن يتصف رجل المخابرات بالعقل والحكمة والهدوء في كافة المواقف التي يتعرض لها، من خلال ما يكتسبه من صفات تم تدريبه عليها أثناء عمله بجهاز المخابرات .
ومن متابعتي لطريقة أداء (آسر ياسين) أستطيع القول بأنه اكتسب أهم صفات رجال المخابرات في ضرورة أن يتحاشى التحدث في الموضوعات التي تثير الجدل وتسبب الخلافات والشقاق والعصبية، مثل السياسة وكرة القدم والدين؛ لأنها قد تؤدي أحيانا إلى العديد من المشاكل، أضف إلى ماسبق أنه كرجل المخابرات لابد وأن يتقن فنون التخفي ومهارة الاختباء والمناورات أثناء حدوث أية مطاردات، وإجادة فنون التنكر في الملبس والمظهر العام، كذلك لابد أن يكون سريع البديهة، يتصرف مع كافة المواقف ويتخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب؛ وذلك لأن عامل الوقت قد يفرق معه كثيرا .
استطاع رجل المخابرات (آسر ياسين) ألا يستهين بأية معلومة على الإطلاق، فجميع المعلومات هامة مهما كانت بسيطة، طالما تأكدت صحتها، ولا تثير أية شكوك، لذلك ظهر كعضو المخابرات الذي لا يمكن أن يبيع بلده أو يعمل لصالح الغير؛ لأنه لا يفعل إلا مايؤمن به لتحقيق المصالح العليا لوطنه وشعبه، وهو مصدر ثقه لقياداته وعلى استعداد للتضحية بروحه في سبيل وطنه، كما لا يمكن أن يبوح بأي سر من أسرار عمله حتى لأقرب الأقربين منه؛ لأنه يعرف قيمة المعلومة، ويعلم أن هناك من يمكن أن يستغلها بطريقة سلبية .
وقد اكتسب (آسر ياسين) أهم صفة في رجل المخابرات، وهى من المهم أن يكون رجل المخابرات على درجة عالية من الثقافة والوعي، وأن يجيد فن الحوار، ويكون حديثه دائما سلسا ومتميزا، وربما هنا أشار إلى إلى جهاز المخابرات المصرية يعتمد في تقدمه وتطوره على كفاءة القائمين والعاملين في مختلف تخطيطاتها، ويبدأ النجاح أولا على الاختيار السليم لعناصرها على مختلف درجاتهم وعلى مستوى الاختيار يجب أن تتوافر بعض الصفات كحد ادنى في رجل المخابرات، فبعض هذه الصفات ذاتي يولد وينشأ الإنسان به وبعضها مكتسب بالعمل المتواصل والمثابرة واكتساب الخبرة في مجال العمل المخابراتي.
خلاصة القول أن اجتهاد (آسر يا سين) من خلال كفاءته في تجسيد دور رجل المخابرات (المقدم خالد) في (الكتيبة 101) يشير إلى كفاءة رجال المخابرات المصرية العسرية والعامة، والذين يتمتعون بقدر من الذكاء واليقظة والحكمة والوعي في مواجهة المتربصين بهذا الوطن سواء كانت جماعات إرهابية أعداء يريدون النيل من مصر العظيمة بتاريخها وحضاراتها التي تمتد من فجر التاريخ وحتى وقتنا الحالي.. فتحية تقدير واحترام لآر ياسين الذي مثل دور واحد من الصقور مصر التي تسهر على حماية مقدرات هذا الوطن.