إلى أمى - رحمها الله -، إلى النور الذى أضاء حياتنا، وإلى من أنحت قامتها لتعدل قامتنا، فما أكتبه اليوم ما هو إلا حنين يتبعه أنين لفراقك يا غالية، أعلم أنك تسمعين ندائي بحضور روحك أمام أعينى، فكنت ومازلت طمأنينتي وسكينتى وسر ضحكتى، وما يلهمنى الصبر على فراقك يا أمى أنكِ استبدلت دارا هي خير من دارنا، فلما لا؟ وأنتِ من التقيت ربك وأنت صائمة مُحتسبة، ومعاناتكِ من المرضِ لم تستغرق سويعات قليلة، وسِتر ربكِ كان يشملك منذ أن قرر الأخوة نقلك للمستشفى قبل صلاة المغرب بدقائق معدودات، ثم مكوثك في المستشفى بين كشف ونقلكِ لسرير عناية مركزة خلال دقائق معدودات، ثم عودتك إلى سرير بيتك مستورة في بطانيتك التي طلبتيها بفمك وإحساسك قبل دخولك المستشفى، ولما لا؟ وأنت في حضرة صُحبة أجمل من صحبتنا وبين يدي من لا يظلم عنده أحد.
يا أماه.. لو ظللت أسجل عشقي لكِ لن تسعني مقالات ولا كتب، لأنكِ أجمل حكاية ستظل بداخلي وسأظل أرويها أبدؤها دوما أمى تقول:..، وسيظل لساني يلهج بالدعاء لكِ كما كنت تدعو لنا قبل مطلع فجر حتى شروق الشمس لا تكلى ولا تملى، وسيظل قلبي متوهجا بك وبسيرتك العطرة وبحبك للناس وبحب الناس لكِ..
يا أماه.. كم كانت حياتكِ مُفعمة بالكفاح والنجاح وقصص تُروى بفخر واعتزاز، وذكرى ستظل باقية بطيبتها وخلقها وإخلاصها، فأسبوع مرّ يا أماهَ وأنا أهرب من نفسى، وأخاف أن أواجهها كي لا أثبّت حقيقة ثابتة وهي أن الموت حق..
يا أماه.. نعم الموت حق لكن حتى الآن لا أتقبل فكرة أنكِ ليست بيننا، وأنكِ لن تكوني في استقبالى حين العودة إلى مسقط رأسى، وأن أدخر إليكِ كماً من الأحاديث والحكايات قلبي لأحكيها لك وأنا مُستلقى على حجركِ الطاهر، ويديكى تطبطب على رأسى وجسدى، ولسانى يتدفق بحكايات ولمعان عينيكى وخفقات قلبك تحنو عليا وتفرح بما أحكى ولسان حالك يدعو لى بالحفظ والستر..
يا أماه.. راهنتُ طِوال عمرى أنك قوية صابرة صامدة، وأنك قادرة على هزيمة الانكسارات ومواجهة الصدمات التي مرت في حياتك بدءا من موت أبى – زوجك – وشقيقى – د صلاح وأ/ صالح وحفيدك محمد شعبان، فأنتِ التي كنت تقوينا بابتسامتك النقية وعزيمة تحملك، وتصنّعك للضحكة في وجوهنا فدائما كنت المنتصرة الوحيدة وسط الهموم، ولم تثنيك هموم غربتنا ولم تُحاصرك أوجاعك التي كانت تطال قلبك وتتعاقب عليه كتعاقب الليل والنهار.. فلم أعهدك إلا قوية ولم أتذكر لحظة ضعف واحدة، وها أنا أحاول أن أكونك على عهدك بأن أبقى قويا صابرا شجاعا محتسبا.
يا أماه.. كلنا إلى نهاية محتومة لكن الفقد أصعب لغة ننطقها، فحروفها تنخر في القلب قبل البدن تأكله شيئاً فشيئاً ولا يبقى مكانها إلا الوجع ومع ذلك تقبلي يا أمى مني هذا الرثاء والبوح الهزيل لأنني لا أزال تحت وطأة الفقد.
يا أماه.. أنا فى حضرتك كنت أشعر أنني ما زلت صغيرا، أسعد بنداء صوتك الممزوج بالحب والحنان والرحمة، حتى بعد أن مرّت الأيام والسنين وتقاطعت مع كل الناس وكل الثقافات وتواجدت في كل الأماكن ومع كل الطبقات والمستويات، لكن في حضرتك يا أمي أعود طفلا صغيرا فلا مصارحة بتعب أو مرض حتى لا تقلقى عليّ وتدوم الطمأنينة في قلبك والبسمة على وجهك، لكن ما العمل أمام إرادة الله؟.
يا أماه.. آه عليا من بعد رحيلك، كيف أفعل عندما اشتاق إلى حضنك ودفء قلبك ونصائحك؟.. وآه من الوجع عندما يحل يوم الجمعة لأسمع صوتك وتسمع صوتى، فأنت من برمجت وقتى لمحادثتك أنتِ وأخوتى بعد صلاة الجمعة مهما كان موقعى في مصر أو خارجها لأطمئن عليكى وعلى أخوتى وأهلى، وتطمئنى عليا وعلى أخى وأولادنا وأهلنا في القاهرة.
يا أماه.. لمن أنظر الآن وأنا من كنت أنظر لوجهكِ الذى رُسم عليه علامات الكفاح والنجاح، فآه من الوجع، فأنا من كنت كل مرة أحاول أن أقترب منكِ وأقبل يديكِ وجبينكِ لأعبر عن حبى لكنى كنت أفشل أمام عطفكِ وحنانكِ، فأنتِ من كنتى تكرهى الضعف، وتحرصى على بث الطاقة الإيجابية داخلنا حتى وأنت قليلة الحيلة، لكن كلماتك ومشاعرك وحكمتك أسلحة قوتك وأدوات محبتك، فأنتِ من تعودت طوال حياتك أن تعطي لا تأخذى حتى من أبنائك وبناتك، وتنشرى المحبة والرحمة للجميع طفلا كان أو شابا أو شيخا، فصورة تجُّمع الأطفال حولك في مدخل بيتكِ ويديكِ تقسّم التمرة عليهم وقلبك يرفرف على رؤسهم بالمحبة لا تترك مخيلتى، وكذلك لجوأ أهلك وأحبابك يشتكون لك قسوة الحياة ومشاغلها وأنت تبثى فيهم وفيهن طاقات الصبر والتحمل وروح الحياة والمحبة.
فآه ثم آه ثم آه يا أماه من وجع الفراق، لكن ما يُعزينا فيكى يا غالية أنك رحلتى وأنت صائمة محتسبة في أيام رمضان المباركة بعد صيامك 17 يوما، ونحن نعلم أن مَن ختم عمره بصيام يوم دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سابق عذاب، لقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة" وقوله: "مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّة"، فرحمك الله وغفر لك أنتِ وأبى وشقيقى وزوجة أخى وابن أخى، وجعل قبركم روضة من رياضة الجنة.. وأسكنك الله يا أمى الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين.. اللهم أمين..