أبتهج بالأعياد المسيحية وأحتفل مع المحتفلين، ليس من زاوية الأُخوّة والوحدة الوطنية وشراكة الروح والمصير فقط، وكلها حقّ لا شك فيه، ولكن انطلاقا بالأساس من مركزية شخصية «المسيح» فى التاريخ الإنسانى، وفى تاريخ الاعتقاد على تنوّع حلقاته، اللاحق له بطبيعة الحال، وربما السابق عليه أيضا.. تصعب مقاربة مدونة الفكر الدينى بتصوّر معاصر دون التوقف طويلا أمام المسيح، بما يُمثّله من تكثيف ونضج لأفكار اعتقادية سبقته، وافتتاح وتأسيس لرؤى وروحانيات تبعته، واتصال وثيق بمعتقدات أخرى مهمة ومركزية منها الإسلام الذى أدين به، والذى بدأت محبّتى لمعجزة ابن العذراء من نصوصه.. تتنوّع الطرق إلى الله فى كل الأديان، لكن محطة الوصول الأخيرة واحدة!
أجد فى عيد الميلاد بشارة حقيقية تتجدّد فى الزمن، جوهرها أن كلمة الله حاضرة دائما وتتجاوز تبدّلات الزمن واللغات؛ لكن يظل «عيد القيامة» حالة خاصة فى قيمته ودلالاته.. أول إشاراتها أنه الحلقة الأقدس فى مدوّنة الكنائس المسيحية وقانون المحبّة يفرض علينا أن نقف بإجلال أمام ما يُقدّسه شركاؤنا فى الإنسانية، ثم أنه عيد يُجسّد قيمة الإخلاص فى محبّة البشر حتى من نختلف معهم، كما وزّع «المسيح» محبّته على الجميع حتى من أنكره أو أراد به شرًّا، والأهم أنه يُوثّق حضورا فاعلا لكنيسة الإسكندرية فى وعى المسيحية وتاريخها الاحتفالى.
حتى مُفتتح القرن الرابع الميلادى كانت هناك تشابكات مُعقّدة واختلافات عميقة بين تيارات عدّة بشأن الموعد، غلب الاحتفال مع فصح اليهود، وكان مسيحيو آسيا الصغرى وبين النهرين يُحيون الذكرى فى 14 و16 من شهر «نيسان» العبرى سواء صادفا الجمعة والأحد أو اختلفا، ورأى فريق أنه ليس منطقيًّا أن يُحتفل مع اليهود.. عُقدت العديد من المجامع المكانية، وعبّر الإمبراطور قسطنطين عن الأمر فى رسالته إلى مجمع نيقية 325 ميلادية قائلاً: «لا يناسب على الإطلاق، خاصة فى هذا العيد الأقدس، أن نتبع تقليد أو حساب اليهود» داعيًا إلى الانفصال عنهم انطلاقا من مسؤوليتهم عمّا حدث للمسيح.. قبل ذلك كانت كنيسة الإسكندرية خطّت لنفسها مسارا واضحا بالاحتفال فى أول أحد تال لبدر الربيع، وهو ما استقر عليه أساقفة «نيقية» وأوكلوا مسألة الحساب للإسكندرية البارعة فى الفلك، ليحتفل المسيحيون معا لأكثر من 1200 سنة قبل أن تتباعد المواعيد على قاعدة التصحيح «الجريجورية» فى القرن السادس عشر، لكن تظل بصمة الكنيسة المصرية حاضرة بقوة تأسيسا على أنها قادت وكرّست مسار الانفصال عن الفصح اليهودى!
عقيدة الفداء التى يدور عليها احتفال القيامة ليست غائبة عن تاريخ الاعتقاد الإنسانى، ما سبق «المسيح» وما تلاه.. يمكن التماس نماذج لها بمعالجات مُتنوّعة فى قصص: «أوزوريس» مصر القديمة، و«بعل» فى بابل، و«كرشنا» فى الهند، و«أندرا» فى التبت، و«بوذا» بالصين، و«برومثيوس» فى اليونان، و«ميتراس» فى فارس.. ملمح مُقارب فى عيد رأس السنة أو فى حمل الفصح اليهوديين، وفى عيد الأضحى الإسلامى وما يتّصل به من معانى التجرُّد وخلع الآثام فى رحلة الحج، وهى طقوس لا تزال مُتّصلة فى إشارة إلى فكرة التجدّد وتكرار الولادة بعد التوبة أو الفداء وغفران الذنوب، وفى القرابين والكفّارات وذبائح التقرّب إلى الله.. الخلاصة أن رمزية الفداء ليست غائبة عن تاريخ الاعتقاد، وإن اتخذت أشكالا سردية وطقوسية متنوّعة بحسب الزمن وسياقات الثقافة والاجتماع، ما يُؤشّر إلى جذور عميقة قد تلتقى عندها الرؤى العقائدية مهما بدت مختلفة أو متمايزة!
فى قراءة درامية للتاريخ يبدو «المسيح» بطلا تراجيديًّا بامتياز، سار إلى نهايته المُتوقّعة مُسبقًا بيقين لا يهتز.. أراد اليهود أن يأتيهم «المسيا» ملكا وحاكما من نسل داود؛ لكنه اختار أن يكون مسيحا للجميع، انطلاقا من قوة «اللوجوس» بالضبط كما رآه القرآن كلمة الله المُتجسّدة فى رحم البتول مريم، وأن يسمع الناس الكلمة أو يصمّوا آذانهم لا يُغيّر ذلك من قيمة المنطوق ولا تحقُّقه فى الزمن وقدرته على التجدُّد؛ ربما لهذا يحضر البيض ضمن طقوس الاحتفال اتصالاً برمزيته عن الولادة وتشكّل الحياة داخل غلاف أصمّ يشبه الكفن.. هذه الرمزية نفسها حاضرة من طقوس مصر القديمة واحتفالات شمّ النسيم التى يجتمع عليها المصريون جميعا كل عام.. يستقر فى وعى أهل وادى النيل أن الموت ليس نهاية المطاف، وأن لنا جميعا قيامةً مُنتظَرة تتحقَّق فيها معانى الولادة والخلاص.
يُجسّد المسيح الحلقة الأكثر نضجًا لكل ما سبقه من تراث عقائدى، إذ حقَّق فكرة اتصال الأرض بالسماء فى أقوى تجلّياتها، وأسَّس معماره على ما سبقه دون قطيعة أو عداء «ما جئت لأنقض بل لأكمل»، ثمّ أنه فتح قوسه على البشر جميعا دون فرز إثنى أو اجتماعى أو جغرافى كما كان يحدث سابقا، وسجّل معجزته بأمارات ماديّة لكنه ترك للقلوب مساحتها الخالصة فى التسليم أو الإنكار، وإلى ذلك فقد أرسى قواعد روحانية عبرته إلى ما تلاه من سكك ومذاهب فى معرفة الله، لا نعدم تجلّياتها فى تأثيره على بعض مسارات التصوُّف والعرفانية، وفى قيم إنكار الذات والإيثار والعمل من أجل المجموع، فى الاحتواء لا الصدام، وفى فكرة غَلبة الروح على المادة وحركية الاعتقاد وتجدد الدين، ورفض المظهرية والانحياز إلى الجوهر، وإسقاط التمييز والتعالى بالعِرق أو الاعتقاد، والأهم التأسيس الجديد لمركزية الإنسان لا الطقوس.
يُقارب المُسلمون والمسيحيّون 60% من تعداد العالم.. قد تتنوّع زوايا النظر إلى قصة السيد المسيح؛ لكن الجميع يتفقون على عظمته وقيمته وأنه «الكلمة»، القيامة أثمن ما يحمله أبناء يسوع من الجسد/ الكنيسة، وأقدس ما يجتمعون عليه من آيات المحبّة وقبول العالم، وكل ما يُبهج الأحباب والأصدقاء يُبهجنا، وكل ما يلمس قلوبهم يلمسنا.. عيد قيامة مجيد، وكل عام والإخوة الطيّبون بكل الخير والسعادة والإيمان والسلام.