مخاطر "الدولرة" واقتصاد الذهب

الذهب كما تصفه الكتب العلمية، والمقالات المفصلة عبر الإنترنت، ليس أكثر من عنصر كيميائي رمزه Au وعدده الذرّي 79؛ يوجد في الطبيعة على شكل فلز ذو لون أصفرٍ مائل إلى الحمرة، وكثافته مرتفعة، وهو قابل للسحب والطرق، ويصنّف ضمن الفلزّات النبيلة، قليلة الوجود في الطبيعة، وعلى المستوى الشخصي لا أعطي للذهب الأهمية الكبيرة اقتصادياً وسياسياً كما يراه البعض، فمزايا هذا المعدن لا تمنحه فرصة أكبر في التحكم باقتصاد العالم كما هو الدارج، خاصة في عالم جديد على بعد خطوات من ركود ممتد وانكماش اقتصادي لا يمكن التنبؤ بأبعاده. الذهب يتحدد سعره وفق بورصة المعادن الدولية، بناء على حجم العرض والطلب، والتسعير يكون من خلال العملة الأمريكية "الدولار"، لذلك يحمل المعدن الأصفر دائماً فرصاً كبيرة لحائزي المال، خاصة في الدول النامية، من خلال مكاسب مزدوجة، الأولى من ارتفاع سعره نتيجة الأزمات الاقتصادية العالمية واضطراب سلاسل الإمداد والحرب الروسية الأوكرانية، وثانيها نتيجة تخفيض العملات المحلية أمام الدولار، ولعل الجنيه المصري على مدار عام مضى يعد نموذجاً واضحاً، لذلك يتكالب الكثيرون على شراء الذهب أو توظيف أموالهم من خلاله، دون النظر للمخاطر الاقتصادية المترتبة على هذه النظرية. عملياً الذهب ليس إلا "دولار" في صورة معدن، والتكالب والسعي لشرائه يزيد من قوة العملة الخضراء في مواجهة الجنيه المصري، ويعتبر وسيلة سريعة لركود ممتد ينتج من انكماش السيولة التي يتم توظيفها في الذهب، سواء لمدد متوسطة أو طويلة، بجانب لجوء البعض إلى تصفية مشروعات صغيرة ومتوسطة وتوظيف أموالها في الذهب، وهو طرح أكثر خطورة يزيد من شبح البطالة، ويدعم سيناريوهات أكثر قتامة للاقتصاد خلال السنوات المقبلة. لا يمكن لمن يفهم الوضع الاقتصادي جيداً أن يعتبر الذهب استثماراً على المستوى المحلي، إلا إذا ارتبط الأمر بتعدين الذهب أو استخراجه من باطن الأرض أو حتى تمويل دراسات للكشف عنه، غير ذلك فالذهب ليس أكثر من أداة ادخار، الهدف منها التحوط من تقلبات سعر صرف العملة المحلية، ولن يصبح له عوائد مباشرة على الاستثمار أو فرص العمل أو مؤشرات الاقتصاد ومعدلات النمو، فالمصانع لن تعمل بالذهب، والإنتاج لن يتحرك خطوة واحدة إذا انشغل أصحاب المصانع بتوظيف أموالهم في السبائك والمشغولات! أتصور أن الخطر الكبير يمكن في "دولرة الاقتصاد" فكلما اشتد حديث الناس عن الدولار، وكلما حولوا مدخراتهم إليه، وكلما اشتروا ذهباً، فتصبح النتيجة الحتمية تحرك الاقتصاد ناحية الدولار وقوة مضافة وهيمنة أكبر للعملة الخضراء، وهذا يعتبر السيناريو الأكثر كارثية على العملة المحلية، التي يتم الضغط عليها بصورة غير مسبوقة، نتيجة رؤية محدودة تجعل العملة المحلية في مقارنة دائمة مع الدولار، لذلك علينا التوقف الفوري عن الدعاية المجانية للدولار، بل أقولها صريحة، لو كنت في موقف الحكومة لقننت شراء الذهب في الوقت الحالي باعتباره صورة من صور الاتجار في الدولار. الوعي بأهمية العملة المحلية لأي دولة أمر لا يقبل النقاش، فالمواطن في أغلب دول العالم المتقدم يقدس عملته الوطنية، ويعتبرها جزء لا ينفصل عن هيبة الدولة، وعامل أساسي في قدرة الاقتصاد، ويمكن هنا طرح مثال بسيط على فكرة احترام العملية الوطنية في دولة المجر، التي صادفني الحظ لزيارتها في العام 2015، ورغم أن بودابست عضواً في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها لا تستخدم اليورو كعملة رسمية، بجانب عدد من الدول الأخرى مثل بلغاريا وكرواتيا والتشيك وبولندا، لأنها أخفقت في تلبية بعض المتطلبات الاقتصادية والقانونية، التي تُعرف بمعايير التقارب الاقتصادي، التي تشترط إبقاء معدلات التضخم وأسعار الفائدة طويلة الأجل والعجز العام دون الحد الأدنى الأوروبي. وفي الحالة المجرية نجد أن العملة هشة أمام اليورو، باعتبار بودابست دولة محدودة الموارد في أوروبا الشرقية، يعتمد اقتصادها على السياحة والضرائب، وبعض الصناعات التي تتميز بها في مجال السكك الحديدية، لذلك فإن اليورو الواحد يعادل 373 فورنت "العملة المجرية"، وقبل 8 سنوات، كان سعر اليورو في حدود 340 فورنت، بزيادة حوالي 10% فقط خلال هذه المدة، وأظنها نسبة معقولة جداً في بلد معطياتها الاقتصادية كما ذكرت، وهذا يعتمد بصورة أساسية على الوعي لدي المواطن المجري، الذي يرفض التعامل باليورو بصورة قاطعة، مهما كانت الإغراءات في البيع أو الشراء، حفاظاً على عملته الوطنية، حتى لا تزيد معدلات التضخم، ويتمكن من سداد ديونه، ويحافظ على مستوى المعيشة، في ظل معدل دخل شهري متدني يصل إلى 445 يورو فقط، وفقاً لبيانات المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي. في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية يجب أن نستلهم تجارب الدول المختلفة في التعامل مع عملتها الوطنية، دون أن ننشغل فقط بالمكاسب، فمهما كانت المكاسب كبيرة، لكنها تظل مؤقتة وعارضة ولن تحفظ مدخرات أو تخلق أجواء آمنة للاستثمار، و"دولرة الاقتصاد" لن تحمل مكاسب إلا للدولار ذاته، وستعود أبعادها غير المحمودة على المواطن في صورة معدلات تضخم بمستويات قياسية، وندرة لبعض السلع، لذلك أفضل طريق لمواجهة أزمات الاقتصاد يجب أن تتركز في العمل والإنتاج، دون الانشغال بأفكار من عينة الدولار يفقد قدرته كعملة دولية أو التحالفات الاقتصادية الجديدة ومستقبل دول "البريكس" - تكتل يضمروسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند – فلو افترضنا صحة هذا الطرح الذي يجعل من هذا التكتل قوة اقتصادية كبيرة تبدد هيمنة الدولار، يجب أن نتوقع مكاناً مناسباً من هذا التحالف، إذا ما نجح في اصطياد الفرص وصار المحرك الأول لاقتصاد العالم، ونضع لذلك الدراسات الواضحة لحجم الفرص التي نحصل عليها أو التحديات التي قد نتعرض لها.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;