الدراما الاجتماعية تستدعي على الدوام أسئلة مقاربة، ليس بسبب نسب مشاهدتها، كما الحاجة لامتدادها على الخارطة الدرامية، بل لما ينطوي عليه خطابها الدرامي من موضوعات جاذبة، أو طاردة لما يمكن أن نسميه هنا بثقافة المشاهدة، لعلها تشكل بعيدا عن نزعات الترف والاستهلاك، الحاجة لثقافة جمالية، لا تعوض بؤسا بعينه، بقدر ما ترتقي بالواقع وأسئلته، لتصوغ وعيا جماليا ورؤيويا، معادله صورة تعكس الواقع وتفارقه في آن واحد، دون أن تجعل من شخصياته أنماطا جامدة لا سيما في الأعمال التي تمثل ألفة مع المتلقي ويلتقي معها مزاجه النفسي وأفقه الفكري.
وكثيرا ما يتساءل الجمهور عن نسبة الخيال في عمل درامي في مقابل ما يرجحونه من أن الواقع الدرامي لم يتطابق مع ما يعرفه، وبمعنى آخر لا يذهب الرأي هنا إلى ضرورة مطابقة الأعمال الدرامية الاجتماعية لما هو مألوف وسائد، بل بتوظيف معرفة تضيف لأسئلة المتلقي على اختلاف مستويات التلقي، فالواقع الاجتماعي في الحيز الدرامي، هو واقع افتراضي، لكنه يشي وربما يحاكي ليبني منظورا مختلفا لإشكاليات وتناقضات، بما يعنيه من انتباه لشرط إنساني في واقع متغير، وقوفا على ما يعنيه تأسيس (اللحظة الدرامية) التي تنفتح على إبداع الثقافة الدرامية وإبداع خصوصيتها، لطالما أصبحت الحاجة ملحة لأن تكون مساحة الأعمال الاجتماعية هى الأعلى نسبة في المشاهدة، بصرف النظر عن مفهوم الكم الإنتاجي، أو انحساره.
فإذا كان العمل الدرامي الاجتماعي على سبيل المثال لا الحصر، (تحت الوصاية) عن نص لـ (خالد وشيرين دياب) وبتوقيع المخرج (محمد شاكر خضير)، وبطولة النجمة الكبيرة (منى زكي)، وبمشاركة نخبة الممثلين الأكفاء (رشدي الشامي، جميل برسوم، دياب، أحمد خالد صالح، محمد عبد العظيم، خالد كمال، على الطيب، مها نصار، ثراء جبيل، أحمد عبد الحميد،علي صبحي)، يستعيد جدلية ومفهوم الدراما الاجتماعية في فضاءات مختلفة، بما يثيره من أسئلة تمثل لدى المتلقي طريقة جديدة لتأويل قضاياه ومساحاته الحميمة، ولحظاته الإنسانية، مع التوغل في مقاربة المساحات النسوية، ومع ما ينتظر أيضا من العمل الدرامي الذي يأتي بمثابة (تحفة الدراما المصرية في رمضان).
ليس الأمر هنا محض معالجة لدواخل لشخصيات، يمتحنها (الخوف) والارتياب، بقدر ما يستبطن - النص - حساسية الرؤية، لاسيما في الفضاءات الإنسانية المتعددة، التي يفضي تأويلها انتباها لتوتر النص الدرامي كما معالجته، بين لحظتين فارقتين: الدهشة والمعرفة، ومحصلتهما تلك الأعمال الدرامية بانكشاف عوالم داخلية (الذات والآخر) ورهانات خيال إنساني يصعد جماليات لغة بصرية، لعلها كثافة الواقع أو المتخيل في (تحت الوصاية) أو كثافة المضامين الإنسانية، حيث الامتلاء الذي يأخذ من الحياة مؤثراتها الحكائية الإيحائية والدلالية، إذ إن ما تذهب إليه الدراما الاجتماعية - كما ينتظر- من الأعمال التي تتوالى عناوينها على الأقل، هو تقويض نمطية الحكايات واستعادة مقولة (الاجتماعي) في الفضاء الدرامي بالمعنى الحداثي والمعاصر، أي غنى الصورة وعمق الطرح وصولا لحساسية لغة درامية تبث في مستوياتها لحظة معرفية أكثر انفتاحا وتعددية في تأويلها الإنساني الثري.
لذا كان الأديب الرحل (أحمد خالد توفيق) يقول إن (تمثيليات التلفزيون تجذب بعض الناس ليس لحبھم للدراما، ولكن لأنھا تتيح لھم نوعا بارعا من التلصص على أحوال وبيوت الآخرين)، ويشير الروائي الأسباني (جورج سانتيانا) إن الفارق بين القصة الروائية والقصة الدرامية هو: (أن الروائي يرى الأحداث عن طريق أذهان الآخرين، في حين أن كاتب الدراما يتيح لنا رؤية أذهان الآخرين عن طريق الأحداث)، فالدراما تجسد ثقافة البشر، ونفوسهم، ودواخلهم، وتحولهم إلى حس مشاهد، لكنها لا تجسد الواقع بحذافيره، ولكن تضخم أجزاء فيه لصالح الفكرة التي تسعى لبثها.
ولأن المسلسلات تعد من أهم أشكال الدراما التلفزيونية، ويكمن تأثيرها في أنها تخلق جسرا من الترابط العاطفي بين الأبطال والمشاهدين، إذ يتحول أبطال المسلسل إلى رفقاء روحيين يأخذون حصة لا بأس بها من تفكير الناس وعواطفهم ويحتلون مكانا في مناقشاتهم، تماما كما حدث مع (تحت الوصاية) الذي احتل مساحة كبيرة من النقاش حوله وحول شخصياته التي تم اختيارها بعناية فائقة، وجسدوا أدوارهم بطريقة احترافية غاية في الإتقان، فقد أبدعت الفنانة منى زكي في دورها عندما ترأست مركب صيد في دمياط وجسدت معاناة مشقة مهنة صيد الأسماك على ظهر المراكب، ومتابعتها لأربع بحارة.
لعبت الفنانة (منى زكي) دور (حنان) في المسلسل وتحدت الصعاب بهذه المهنة التى لا يعمل بها إلا رجال لديهم خبرة سنوات في البحر، ومن ثم دخلت مرحلة ثانية من الأداء والتمثيل في عمرها الفني، ليس لأنها تمثل الأم المصرية الشقيانة بل لأن كمية الصدق والاحساس وعدم المبالغة في تمثيلها وصل، لدرجة إنها استطاعت أن تغير ملامحها إلى حد أنك تنسى تماما أنها (منى زكي) من فرط اتقانها الصادق المريح للشخصية، ولذا تمكنت من قيادة المركب، وظهرت على ظهر هذا المركب الصيد وقامت بالتنبيه على البحارة بأمتار الغزل كي يتناسب مع أعماق البحر، كما ظهرت أيضا وهى تعيد إصلاح شباك الصيد بطريقة احترافية لا يعرفها سوى الصيادين وزوجاتهم اللاتي يتمكنون من تصنيع تلك الشباك وغزله داخل المنازل، وليس على متن المركب أثناء رحلة الصيد، وهذا مما جعل الأمر أكثر صعوبة واجهته (حنان) كامرأة تتحدى الصعاب وتواجهها وتتغلب عليها، لتثبت منى زكي أنها تجيد تجسيد المشاهد الصعبة والمعقدة.
مع كل حلقة جديدة من مسلسل (تحت الوصاية) كانت تتكشف أمامنا جوانب جديدة من الإبداع والإبهار، تأخذنا لمساحات جديدة على الدراما التليفزيونية، تستحق الوقوف والتأمل في جزئيات العمل المبهر، خالد وشيرين دياب يواصلان إبداعهما العالمي بكتابة حلقات مسلسل (تحت الوصاية) التي تعد إحدى حلقات نجاحات متتالية، منها على سبيل المثال فيلم (أميرة) الحائز على العديد من الجوائز العالمية من بينها مهرجان فينيسيا الدولي، ويستكمل المخرج المتميز (محمد شاكر خضير) سلسلة أعماله التي تتسم برؤية فنية وبصرية مختلفة، تحلق بالمشاهد لآفاق جديدة وغير مطروقة، مع كل عمل جديد له، ولعل مسلسلي (جراند أوتيل، وطريقي) يبرزان بشكل واضح هذا التميز والتفرد، الذي ظهر بشكل واضح في التعاون مع والإنتاج شركة (ميديا هب سعدى - جوهر).
ولعلنا لاحظنا أن الفنانة العملاقة منى زكي لم تبال من الهجوم الشرس الذي تعرض له الفيديو الترويجي لمسلسل (تحت الوصاية)، وتركت الحكم للمشاهدين بعد مشاهدة الحلقات، حيث استطاعت بجدارة معايشة مأساة المرأة المعيلة، بلا سند ولا معين، لتواجه بشراسة ظروف اجتماعية قاسية، وأشكالا من المعاناة بقوة وصمود (انظر جيدا مشيتها التي تعكس جوهر الشخصية التي تؤديها) وتأمل أيضا كيف نجحت في تحويل قضية (الوصاية) بكل ما يشوبها من عوار إلى قضية رأي عام، ووضعتها تحت المجهر ليتدارسها المسئولون ونأمل أن يتم تعديل قوانين الوصاية بحيث تكون في صالح الأبناء والأمهات بشكل خاص، وظني أن إسناد الموسيقى التصويرية للفنانة الموسيقية السورية (ليال وطفة) منح المسلسل المزيد من الإبداع، والحس المرهف العالي، وحتما يكتشف المتابع مع كل مشهد الانسجام الموسيقي الرائع والتعبير عن الأحداث من خلال الموسيقى التصويرية المصاحبة.
ولابد لي من الإشادة بممثلي مجموعة ميناء دمياط وحلقة السمك في المسلسل وعلى رأسهم الممثل القدير(رشدي الشامي) في تجسيده لدور (الريس ربيع) الذي عزف جيدا على أوتار المشاعر الإنسانية بعذوبة أدائه، والذي أبكى موته الجماهير في الحلقة 13، وكذلك (محمد عبدالعظيم) في دور الريس سيد، الذي جعله عدو الشعب رقم واحد بأدائه فائق الجودة، المدهش جدا (خالد كمال) في دور البحرية (حمدي) الشاب المعجباني الفتك عاشق النساء، وأيضا البارع (أحمد عبد الحميد) في دور شنو، والذي يجيد أدوارا مميزة وعجيبة وتحمل المفرقة على قلتها، منها مثلا دور (نجاح الصعيدي) في مسلسل (جزيرة غمام) رمضان 2022، أما المتميز للغاية (علي صبحي) في دور الأسطى عيد السكير، فلابد أن تسأل سؤلا ملحا: من أين جاء محمد شاكر خضير بهذه العصابة وبتلك الكائنات الغريبة التي انصرت في بوتقة واحدو فقدمت عملا إبداعيا يتفوق على كل عداه من مسلسلات اجتماعية في موسم رمضان 2023.
على جانب آخر أثار مسلسل (تحت الوصاية) حالة واسعة من الجدل بمجرد عرض الحلقات الأولى منه؛ وذلك بسبب القضايا الشائكة التي يتناولها، والتي تتعلق بحقوق المرأة المصرية وحرمانها من الوصاية على أولادها بعد وفاة الزوج، وكانت من أكثر المشاهد التي تفاعل معها الجمهور على نطاق واسع، هو مشهد ذهاب (حنان/ منى زكي)، وهي أرملة وأم لطفلين، إلى البنك لتحرير شهادة ادخار خاصة بطفلها اليتيم، وحينها رفض الموظف المسؤول، لعدم توفر شهادة من (المجلس الحسبي) لتبدأ رحلة معاناة الشخصية من ذلك الروتين البغيض الكفيل بقتل آمال وطموحات كثير من بسطاء هذا الوطن.
ويشير نظام المجلس الحسبي في مصر إلى القانون الخاص بالولاية على أموال القصر، وينص على أن الأم الأرملة ليس لها حق الوصاية، والتصرف المباشر في أموال أبنائها ممن لم يبلغوا سن الرشد (21 عاما حسب القانون،
بينما تؤول الوصاية المالية بعد وفاة الأب بالتبعية إلى الجد ثم إلى العم، وفي حال رغبة الأم في انتقال الوصاية المالية لها، عليها أولا التقدم للمجلس الحسبي بطلب وصاية قد يعيقه عدم رغبة الجد والعم، ولأن الفن رسالة ويجب تسليط الضوء من خلاله على القضايا المجتمعية الشائكة، فقد نجحت منى زكي في تسليط الضوء على مشاكل السيدات الأرامل في مصر، وبعد عرض الحلقة الرابعة من مسلسلها تحت الوصاية، شهد مجلس النواب المصري العديد من التحركات بعد عرض المسلسل.
وطالبت النائبة (ريهام عفيفي) عضو مجلس الشيوخ، بضرورة إجراء تعديلات على قانون الولاية على المال والصادر منذ خمسينات القرن الماضي، وأكدت أن قانون الولاية على المال والجاري العمل به، يواجه العديد من القصور التشريعي، وأشارت إلى أنها تعكف حاليا على إعداد طلب مناقشة موجه إلى المستشار عمر مروان وزير العدل بمصر، وسيتم تقديمه عقب إجازات الأعياد، ويتضمن ضرورة تعديل قانون الولاية على المال والصادر في عام 1952، خاصة وأنه لم يعد يتناسب مع هذا العصر.
وأخيرا لابد لي من القول: لم يكذب سقراط يوما حين قال إن (الدرما محاكاة لفعل إنسان) وأيضا لم يكذب من قال إن (الفن هو انعكاس للمجتمع)، لأنه يخدم قضايا المجتمع بالأساس، وهو ما حدث مع نوعية الدراما التى تقدمها (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) من خلال مسلسلات الـ 15 حلقة فى موسم رمضان الذي ينتهي اليوم، والتى تشكل فى مجملها تعبيرا صادقا عن حالات إنسانية واقعية تعيش بيننا، وفى القلب منها قضايا الأسرة التى تتغير بتغير الظروف والأزمان، لهذا لفت نظرى مؤخرا مسلسل (تحت الوصاية) الذي من يغوص فى أعماق النفس الإنسانية على جناج النقد لظواهر سلبية تضرب عضد الأسرة فى مقتل ومنها الوصاية على الأطفال القصر، والتي تصدى لها المسلسل بطريقة تشريحية توضح عرج القانون.