في تاريخ مصر كثير من الأبطال والعباقرة، منهم من نعرف قصصهم وإنجازاتهم، ومنهم من فضل أن يكون ما قدمه في طي الكتمان لسبب ما أو لآخر، ومن النوع الثاني يبرز اسم قدم لوطنه ما لا يمكن نسيانه في الحرب وفي السلم، وكان مثالا لمن يعطي علمه، ولم يبتغ مقابلا ولا حتى شكرا، وهو الدكتور محمود يوسف سعادة.
منذ ما يزيد على الخمسين عاما وفي أثناء التحضير لحرب أكتوبر اتخذ السادات قرارا بالاستغناء عن الخبراء الروس، وفي رد فعل مباشر امتنعت روسيا عن توريد الأسلحة التي كان من ضمنها وقود الصواريخ الروسية التي كانت عماد حائط الصواريخ المصري، مما يهدد الجبهة المصرية بالكامل ويجعلها مكشوفة تماما خلال أي عملية عسكرية، فتصدى لهذه المشكلة باحث شاب كان من أوائل من عملوا بمجال الكيمياء الصناعية في مصر، واستطاع أن يفك شفرة تركيب هذا الوقود من خلال تحليل الكمية الصغيرة الباقية لدى الجيش المصري، واستطاع في خلال شهور تصنيع خمسة وأربعين طنا من هذا الوقود، تلك الكمية التي انتظر السادات الوصول إليها ليتخذ قرار الحرب.
عاد محمود سعادة إلى عمله البحثي على تقنية الموجات الصوتية، التي استطاع من خلالها أن يخترع جهازا أنقذ الزراعة المصرية من هجمات الفئران عن طريق وضعه في الحقول لطردها.
هكذا كان العقل المصري عاملا حاسما في الحرب كما هو في السلم، وهكذا كان مستعدا لتقديم خلاصة عمل عقله طائعا وفي كتمان استمر لعقود، ربما حتى وفاته في ديسمبر 2011، لم يحاول أن يكشف دوره الكبير في صناعة قرار مصيري كقرار حرب أكتوبر، فعاد لعمله في أكاديمية البحث العلمي حتى وصل لمنصب مدير مكتب براءة الاختراع المصري في التسعينيات، ثم نائبا لرئيس الأكاديمية، وأخيرا أستاذ متفرغا بها حتى وفاته.
والسؤال الذي يلح الآن، ونحن في خضم اليوبيل الذهبي لحرب أكتوبر، وذكرى تحرير سيناء، هو لماذا يظل مثل هذا الاسم غائبا عن أذهان أطفالنا وطلابنا؟ كيف لا ندعم انتماءهم لمصر بمثل هذا الاسم الذي يمكنه ببساطة التأكيد على فكرة قدرة العقل المصري؟ وأن كثيرا من أبناء هذا الشعب سيظل قادرا على الفعل، بل على فعل ما قد يظنه البعض مستحيلا.
في ظني لا يحتاج الأمر سوى أن تنفتح المناهج الدراسية وفعاليات التثقيف والتعريف على أسماء مثل د. سعادة، وهي الأسماء التي ستصبح كفيلة في ذاتها بإعادة أبنائنا إلى منظومتهم القيمية الأصيلة حين يعرفون أنها قد أنتجت مثل هذا النجاح، فقيمة النجاح هي التي يمكنها بناء الثقة بين هذا الجيل وقيم مجتمعه، لاسيما أننا نمتلك منها الكثير في المجالات كافة، خاصة المجالات التي تعتمد على العلم بوصفه أساسا.
فإذا كانت عودة القيم المصرية الأصيلة إلى وعي أبنائنا الشباب هدفا أصيلا في رؤية الدولة المصرية، فمن المهم البدء في التعريف والترويج لنجاحات أبناء هذه القيم، ومن أهمهم د محمود يوسف سعادة الذي قدم لنا مثلا على كيف يكون المصري في تفكيره، وعلمه، في أثناء التضحية وبعدها.
تحية إلى هذا الرجل الذي يجب أن نظل نتذكره ونعرف به، وإلى كل أقرانه من العقول المصرية الأصيلة التي استطاعت، وما زالت تستطيع، حيث يكون امتدادهم في أبنائهم وأحفادهم هو خير ما نقدمه لهم من شكر.