فن الأرابيسك هو طبع التصميم على الخشب، ويعتمد على ذوق الفنان الفطري الذي يبدع في الأشكال الهندسية المتداخلة، فهو فن يحتاج إلى صبر ودقة عالية، يمر بعدة مراحل تبدأ بإعداد الرسومات الهندسية للأجزاء المطلوب خرطها على الخشب أو الورق، ثم اختيار نوع وحجم الخشب المطلوب ثم التثبيت على المخرطة، وطبع التصميم على الخشب، وبعدها تأتى مرحلة الحفر والتشكيل، وأخيرا الدهان، ولذلك يعتبر الأرابيسك فن وصناعة معا، وظني أن موهبة الفنانة الجميلة (هالة صدقي) تشبه موهبة صانع الأربيسك من حيث الدقة والاهتمام بتفاصيل الأداور التي تلعبها فتبدوا في بهاء زخرفها وروعة ودقة تجسيدها الدرامي.
ولأن الأرابيسك يتميز بأنه فن معماري الطابع تغلب عليه الأشكال الزخرفية والحفر ورسوم النباتات، والذي كان يستخدم لتجميل مدن وأحياء بأكملها جدرانها وشوارعها ومساجدها بالإضافة لإنشاء تحف من الأعمدة والتيجان ومنابر المساجد والمشربيات والأبواب، فإن موهبة النجمة (هالة صدقي) تشبه هذا الفن المعماري، فكما يعتمد فن الأرابيسك على التكراريات وعلى الخشب والصدف والمعادن مثل النحاس والذهب كخامات، فإن الفنانة الجميلة شكلا وروحا وملامح شخصية هى واحدة من نوع الممثلين الذين يعنون جيد بالشخصية قبل الدخول في آهابها، فتقوم بالتحضير لها جيدا من خلال دراسة متأنية لطريقتها في الكلام وحركاتها المميزة، فيأتي أداؤها فائق الجودة عبر إيحاءات وإشارات عرضية.
ويبدو التحول خاصية أساسية للتمثيل عند (هالة).. إنه انسلاخ عن الذات وتقمص للآخر (الشخصية)، لذا فهى تتقمص الشخصية بكل سماتها وخصائصها ومميزاتها بحيث يمحو ذاتيتها تقريبا، أى أنها لا تكشف ذاتها إنما تجسد الشخصية وتختفى وتتوارى داخلها، بل إنها تلتحم بالشخصية فى مستوى سيكولوجى عميق، غير أننا نعى حضورها ونشعر بأن هذا الحضور يضاعف ويحدد فهمنا للشخصية التي تجسدها ببراعة فائقة، وكما الأخشاب التي يصنع منها الأرابيسك تتنوع في شكلها وملامحها مثل (خشب الورد وعظم الجمال وخشب الصنوبر والأبنوس)، تنشغل (هالة) بتنوع أدائها لشخصيات من لحم ودم لتصنع دروا يشبه قطعة الأربيسك في تداخلاتها وروعة شكلها وملامحها.
وحيث أن تصنيع الأرابيسك يحتاج إلى دقة شديدة تصل إلى جزء من الميلمتر فإذا كان الخشب غير مجفف يحدث انكماش به بعد تصنيعه ويؤدي إلى كثير من المشاكل مثل حدوث فراغات بالمشربية أو سقوط بعض المخرزات، فإن (هالة صدقي) تجتهد في الارتجالات التي تقوم بها، والتي تؤكد نضجها الفني، وذلك بفضل تجاربها الكثيرة في الأداء وتلونها بشخصيات، كما يبدو لا تختلف كثيرا عن طبيعتها الشخصية في أنها فنانة محبة خفيفة الظل محبة لفنها، وهو ربما مايشير إلى حد عدم الفصل بين شخصيتها الحقيقية والشخصية التي تجسدها، فحتما هناك خط يربط بينها وبين شخصياتها الدرامية.
من (توحيدة) في حسن أربيسك عام 1994 إلى(الملكة صفصف)في مسلسل جعفر العمدة 2023، وصلت الفنانة الكبيرة (هالة صدقي) إلى قمة النضوج الفني والخبرة على جناح الموهبة الطاغية المرصعة بالأصداف، ففي حسن أربيسك مع الفنان صلاح السعدني، عاشتهالة صدقيدور فتاة الحارة الشعبية التي تقع في غرام بطل تلك الحارة، عاشت الدور وعلق في أذهان المشاهدين، وفي 2023 عاشت هالة نفسها أيضا دور (الملكة صفصف) وهى في قمة النضوج الفني، عاشت (صفصف) دور الأم في حي شعبي يشبه حي خان الخليلي، الذي عاشت فيه دور الفتاة الشعبية من قبل في مسلسل (أرابيسك)، وبين المسلسلين (أربيسك وجعفر العمدة) نكتشف قمة النضوج الفني الذي وصلت إليه هالة صدقي، وهى بعد كل هذه السنوات من أربيسك 1994، إلىجعفر العمدة 2023، تستحق هالة صدقي لقب (الملكة صفصف).
ولعل جانبا آخر من براعة الأداء يبدو واضحا أيضا في معاناتها كأم لـ (حامد) في (سره الباتع)، وكأن هناك إسقاط على حياتها الشخصية التي تعتريها بعض الآلام والأحزان التي صاحبتها طوال الفترة الأخيرة من حياتها المضطربة بفعل زواج فاشل أفضى بها إلى حالة الطلاق كما نعرف، وهو ما انعكس بالضرورة على أدائها فائق الجودة، على عكس شخصيتها المرحة المحبة لزوجه وللحياة بصفة عامة، في مسلسل (جعفر العمدة) إلا أنها استطاعت أن تصنع حالة من الكوميديا عبر لغة جسد ووجه معبرين يجبرانك على الضحك رغم لسانها الزالف في أغلب حوارتها التي قدمت من خلالها لوحات كوميدية قادرة على تفجير أصعب المواقف التراجيدية.
ومن هنا فلايختلف أحد على أن النجمة الكبيرة هالة صدقي ممثلة من الوزن الثقيل، ولعل تألقها على شاشة رمضان 2023 في مسلسلي (جعفر العمدة، وسره الباتع)، يؤكد صدقها الفني الذي يفضي إلى إبداع حقيقي، ومن خلال متابعتي لمسيرتها الفنية الطويلة ألحظ أن (هالة صدقي) تسعى في كل أدوارها في السينما والتلفزيون والمسرح إلى التماهى والتطابق مع الدور، حتى وإن كان متعارضا مع ذاتها الحقيقة، إنها تكيف ذاتها وتلج الدور ليقطن فى الشخصية، وأثناء ذلك تقوم بتحويل نفسها ليس جسمانيا، كمظهر وانتحال حركى وصوتى، فحسب، بل أيضا ذهنيا وروحيا، بحيث يبدو الدور مختلفا تماما عن ما هو مرسوم له في السيناريو.
ويمكنني القول بأن (هالة) تنتمي لنوعية الممثلين الذين يجسدون الشخصية بطريقة مباشرة وغير معقدة، ومع ذلك نحس بالصدق فى أدائها، وتظهر قدرة عالية على فهم الشخصية وتوصلها ببراعة واقناع، وهى ممن يعايشون الأدوار لكن دون القيام بتحريات أو عملية استقصاء سيكولوجى بشأن الشخصيات، بل تعتمد على الخبرة والحدس والغريزة، كما بدا لنا ذلك واضحا جليا في شخصية الأم في كلا المسلسلين (جعفر العمدة، وسره الباتع).
في تواز غير مخل نرى (هالة صدقي) تملك القدرة على الأداء الكوميدي والتراجيدي في آن واحد عبر عملين مختلفين، وبالتأكيد، فإن هذه العملية تقتضى وعيا فنيا ومعرفة ثقافية وسيكولوجية ومقدرة استثنائية لدى المخرج في التعامل مع قدرات (هالة صدقي)، فالشخصيات التى يتعين عليها أن تجسدها ينبغى معرفة خلفيتها الاجتماعية والتاريخية ودوافعها، والمحركات أو المكونات التى تجعلها تفكر أو تشعر أو تتصرف بطريقة معينة، لكن من جانب آخر، فإنها تفرض على نفسها كممثلة أن تتحمل مسؤوليتها فيما يتصل بعملية السبر، فمقابل تجاهل المخرج أو التغاضي عن حرفيتها فعليها كممثلة أن تبادر من تلقاء نفسها، ودون أن يملى عليها أحد ذلك، إلى الكشف عن مخزون الذاكرة وفحص تجربتها الحياتية والثقافية، لعلها تجد تماثلات مع الشخصية التي تؤديها، أو حالات ومواقف تثرى وتعمق الشخصية، وذلك بعد دراستها من جميع جوانبها وعبر مختلف المستويات.
ولأنه يتعين على الممثل أن يدع الشخصية تتعايش مع ذاته، وأن تكون جزءا منه من كيانه، لا أن تكون غريبة وشاذة ومستقلة، فإن الممثل لايستطيع أن يكون صادقا ومقنعا فى دوره إن شعر بنفور أو كراهية للشخصية التى يؤديها، وحتى لو اتخذ موقفا محايدا إزاءها فإن خللا ما سيظهر جليا للعيان، ومن أجل ذلك فإن (هالة صدقي) لابد أن تحب الشخصية أيا كانت (كوميدية أو تراجيدية)، ولابد أن تشعر بأنها تمثل جانبا منه الظاهري أو الخفى، ربما لايشعر الممثل بارتياح، أو لنقل بتماثل مع شخصية شريرة - على سبيل المثال - لكن هناك حتما جوانب مشتركة بين ذاتها وهذه الشخصية ربما ليس فى السلوك، لكن فى حركة ما، فكرة ما، طموح ما، اتصال حميمى بشىء ما، تماما كما فعلت (هالة) في كل حالتها التمثيلية في دور الأم في مسلسلي رمضان 2023.
معروف أن لكل ممثل طريقته فى التحضير للدور وإعداد نفسه لتجسيد الشخصية، لكن ثمة ممثلون مثل (هالة) لايكتفون بقبول الدور المرسوم كما هو فى النص بل يحللون الشخصية ويحاولون اكتشاف منبعها، خلفيتها، ثقافتها، أسلوب حياتها، رغباتها، مخاوفها، دوافعها، ماضيها، حياتها العائلية، نوعية الملابس التى ترتديها، الأشياء التى تقتنيها، الأماكن التى ترتادها، حركاتها المميزة، طريقتها فى الكلام، وجهة نظرها فى أمور عديدة، حتى وإن لم يكن هذا متضمنا فى النص أو أنه مطروح عبر إيحاءات وإشارات عرضية، إنهم يقومون بإجراء بحوث فى طبيعة وسلوك وعلاقات الشخصية التي يجسدونها حاملة المشاعر والأحاسيس التي تعبر عنها.
من إحدى مهمات المخرج الرئيسية فى علاقته وتعامله مع الممثل، أن يسبر ويستخرج تلك الطاقة الإبداعية الكامنة فى الممثل والتى بها يجسد الشخصية على نحو متكامل، ويعبر عن مختلف انفعالتها ومشاعرها وتناقضاتها بصورة مقنعة ومثيرة للإعجاب، وفي حالة (هالة صدقي) فإن المخرجين يعتمدون في اختيارهم لها على موهبتها الطاغية في الأساس، مع إعطاء الأولوية للشكل الجسمانى وأحيانا لشعبيتها النسبية، وبعد ذلك يكتفون بما تقدمه هذه الممثلة أو بما تضيفه ضمن حدود ضيقة، فى تأديته للدور، انطلاقا من توجيهات المخرج، وذلك دون أن يولوا عملية السبر والاستنباط لذات (هالة) واستنطاق دواخلها، ذلك الاهتمام الضرورى الذي لا يوليه غالبية المخرجين الذين لم يصلوا بعد إلى أعماق موهبتها الحقيقية.
رغم أن (هالة صدقي) أدت دور الأم في مسلسلين مختلفين (سره الباتع وجعفر العمدة) لكنها أثبتت إمكانات غير عادية في قدرتها على التجسيد، وهى ليست المرة الأولى التي تفعل هذا، فقد عرفت هالة صدقي بأنها قادرة على أداء أدوار صعبة ومركبة، وأجادت فيها عبر مسيرتها الفنية، ولكنها كانت في (جعفر العمدة) الأم/ الملكة زوجة عبد الجواد العمدة والد جعفر، وشخصيتها القوية كانت واضحة بالرغم من تنقلاتها الكوميدية في بعض المشاهد لكنها قادرة ومعبرة.
على الجانب الآخر كان دورها كـ (أم حامد) إبان الحملة الفرنسية دورا عظيما يشهد لها بكل تفاصيله، بالرغم من مساحة الدور القليلة لكن (هالة صدقي) المبدعة والمتمكنة من أدواتها استطاعت لفت الأنظار إليها، وليس هذا غريبا على الملكة فقد اعتادت هذا الأمر في الكثير من أعمالها على الشاشة، عبر أدواتها الخاصة التي تشبه الأدوات الأساسية لإنتاج مشغولات الأرابيسك: الخشب - الأبنوس والعاج - الباغ - مواد الدهان والتشطيب - ورق الصنفرة - ورق الرسم منشار أركيت - أزميل الخرط - الصنفرة - الشوكة الرندة (لخرط اللدائن والعاج والعظم) - المنقار - المفحار - البرجل الكروي (لقياس أقطار الاسطوانات والأشكال المخروطية) - (البرجل المقص) لقياس الأقطار الداخلية المجوفة والمخروطة، لذا تراها انشغلت بالتفاصيل الدقيقة في أعمالها الفنية التي تؤكد موهبتها .
وعلى كل ما مضي، فإنه لابد من تحية تقدير واحترام للفنانة (هالة صدقي)، فهى فنانة من طراز خاص، تملك منطقة خاصة من الصعب أن نجد من ينافسها بها، فهى شخصية فنية ثرية بالمشاعر والأحاسيس، لديها القدرة على أن تخطفك سواء بخفة ظلها كوميديا أو بالتعاطف معها تراجيديا، ولا تشغلها أبدا البطولة المطلقة، فكل دور تقدمه هو بطل فى نطاقه بحسب وجهة نظرها، ولا يوجد ما يسمى ببطولة مطلقة، ورغم ذلك فقد وصلت لحالة من النضوج الفني التي تجعلها تقدم أدوارا وشخوصا لها تأثير على جمهورها في مختلف أنحاء الوطن العربي، فأصبحت تبحث عن الكيف وليس الكم منذ فترة طويلة، مما جعل ما تقدمه مختلفا عما قدمته من قبل من أعمال، سواء في السينما أو على شاشة التليفزيون.