إذا كنّا فى قطار واحد، فإننا لن نصل إلا معًا.. قد لا يختلف اثنان على تلك الحقيقة المُجرّدة، وربما يضحك البعض من فرط بديهيّتها، لكن على كل تلك البساطة قد نسقط جميعًا فى الفخ أحيانًا، فنتخيّل أننا يُمكن أن نصل وحدنا ونترك بقيّة القطار مُتأخّرًا على الطريق أو مُتجمّدًا فى محطة الانطلاق. أوضح ما تتجلّى فيه تلك الحالة أمور الاجتماع وعلاقة الطبقات والشرائح الاقتصادية ببعضها، فبينما تقوم الحياة بكاملها على أكتاف العمال، قد يسقطون أحيانًا من الحسابات.. من دون مُبالغة أو تزيّد يمكن القول إنهم سقطوا طويلاً بالفعل، ولعقودٍ مُمتدّة، لا من دائرة اهتمام شُركائهم فى المجتمع وحدهم، ولكن من أولويات الدولة نفسها ومنظومة الإدارة والتشريع!
السنوات الأخيرة على قسوة ما فيها من ظروف دولية وإقليمية، ونصيبنا من انعكاس تلك الأوضاع الضاغطة على الاقتصاد وتوازنات القوى الاجتماعية والاقتصادية، لم يسقط محدودو الدخل والفئات الأولى بالرعاية، وفى طليعتهم العُمّال، من حسبة التوازنات وضبط قنواتهم المفتوحة مع الدولة والمجتمع.. صحيح أن «العين بصيرة والإيد قصيرة» وقد لا تكون قدرات البلد فى الوقت الراهن كافيةً للوفاء بكل الالتزامات، إلا أن التضامن وإبداء الاهتمام والسعى الحثيث لتحسين الأوضاع وسدّ الثغرات القديمة قد تُمثّل فى تكاملها تعويضًا أدبيًّا مُجزيًا، يتكامل مع المُتاح المحدود ماديًّا، ليحمل رسائل إيجابية لمجتمع العمل فى تنوّعه وتفاوت مستوياته، مفادها أننا، وإن كنا مُقيّدين إلى ظروف ضاغطة، ولم نحقق الكفاية والرفاه للجميع كما نحلم ويستحقون، نظل معًا على قلب رجل واحد، نتشارك شعورًا واحدًا بالأوضاع، وحلمًا واحدًا بالمستقبل، وتلك الشراكة بداية الطريق نحو واقع أفضل، كما أنها ضمانة للوفاء بالحقوق والمُتطلّبات حالما تتحسّن الظروف، والاجتهاد قدر الطاقة لتخفيف المعاناة وتخفيف الأحمال عن كواهل الجميع الآن ودائمًا.
كان الرئيس السيسى واضحًا، فى كلمته خلال احتفالية عيد العمال، صباح أمس الاثنين، وكانت الأجواء مُبهجة وبليغة التعبير، الدلالة الأولى من اختيار مصنع الشرقية للسكر فى الصالحية الجديدة بدلاً عن القاعات والمسارح، والمعنى أننا نذهب إلى العمال لا نستدعيهم، ونحب أن نراهم فى أماكنهم بأياديهم الخشنة وملابسهم المُبلّلة بالجهد والعرق، وأننا حتى فى أوقات البهجة والأعياد نرفع شعار العمل ونحتفى باستمرار الإنتاج وأصوات الماكينات، ثمّ إننا نعرف القيمة الحقّة وننسب الفضل لأهله، وما تحقّق أو نتطلَّع إلى إنجازه لا سبيل لهما إلا بجهد العمّال وإسهاماتهم فى كل بُقعة على امتداد مصر. عبّر الرئيس صراحة عن فلسفة الدولة وانحيازها لعُمّالها، وترجم التعبير بحزمة قرارات وإجراءات ذات أبعاد اجتماعية مُهمّة، واتّصالاً بما يطرحه دومًا على المصريين فى كل المحافل واللقاءات عن تحديات اللحظة الراهنة وضغوطها الاقتصادية، وبعضها داخلى وأغلبها نتحمّله مُتأثرين بموجة اضطراب عالمية واسعة المدى، تكتسب الإشارات المُسجّلة فى حفل الشرقية دلالات أعمق، انطلاقًا من أن النوايا الصادقة والمواقف الجادة تُعرف فى الشدّة أكثر ممّا تُعرف فى أوقات الرخاء.
قبل ثلاث سنوات مثّلت أزمة كورونا ضغطًا قاسيًا على العمالة غير المُنتظمة، سارعت مُؤسَّسات الدولة وقتها إلى التدخُّل بتكليفات من الرئيس، وأسفرت تلك المبادرة عن حزمة مُساندة ضخمة استفاد منها مئات الآلاف بنحو 4.5 مليار جنيه صُرفت عبر 6 دفعات، أسهمت القوى العاملة بـ1.4 مليار منها، يترافق مع هذا الاهتمام مسار آخر للتأمين الاجتماعى شمل 45 ألفًا فى مرحلته الأولى. الظرف الراهن ما يزال مُتأثّرًا بامتدادات كورونا، وما لحقها من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وموجة التضخم العالمية وتضرُّر سلاسل الإمداد والتوريد، وتصدير الولايات المتحدة وأوروبا أزماتهم للعالم برفع الفائدة والضغط على الجميع، عبر امتصاص الفوائض المالية من أجل النجاة داخليًّا حتى لو أطاحوا بالآخرين، تلك الحالة رتّبت أعباء إضافية على الدول والحكومات فى تدبير الاحتياجات الأساسية وأبواب الإنفاق ومخصّصات الاستثمار العام، ما قد تسقط معه أحيانًا مسائل الدعم والرعاية الاجتماعية جزئيًّا أو كليًّا، وهو ما حدث فى دول مُحيطة بالفعل، ولا لوم على الأقل لو ظلّت الأمور كما كانت عليه، لكن هذا لم يحدث فى مصر.
أصدر الرئيس قرارات مهمة خلال الاحتفالية، لا مجرد توجيهات، والفارق أنها نافذةٌ إجرائيًّا بذاتها من وقت إعلانها، وليست عناوين مطروحة للدراسة المتأنية من الحكومة ودولابها التنفيذى. وشملت القرارات: إنشاء «صندوق إعانة الطوارئ»، وتفعيل عمله بمنحة عاجلة 1000 جنيه، وإصدار وثيقة جديدة من «شهادة أمان» بعد تجربتها الناجحة فى 2017، وتأكيد الالتزام بنسبة ذوى الإعاقة إلى أعداد العاملين فى كل القطاعات، وفتح الباب لدراسة مشروع «قانون العمل» بمشاركة كل الفئات والمعنيّين، وتعزيز الامتثال لمعايير العمل الدولية، وسرعة إطلاق المنصّة الوطنية لمعلومات سوق العمل، وإنهاء الإجراءات الرامية لتحقيق المساواة بين الجنسين وتوفير بيئة عمل آمنة ودعم النساء العاملات، إلى جانب حملة قومية عن قيمة العمل وأهميته وتشجيع العمل الحر وريادة الأعمال والمشروعات المتوسطة والصغيرة، وأخيرًا بدء الاستعداد للمستقبل وما يفرضه من شروط وتحدّيات على سوق العمل سواء ما يخص المهن أو المهارات المطلوبة وقدرات الموارد البشرية.. تبدو حزمة القراءات مُتكاملةً فى فلسفتها، من زاوية المساندة العاجلة للعمالة غير المُنتظمة، والتأمين عليهم، ثم ضبط البناء التشريعى لمجتمع العمّال، والتحرّك فى اتجاه بناء الكوادر والقدرات بما يسمح بترفيع قيمة اليد العاملة وعوائد نشاطها، ويصب بطبيعة الحال فى اتجاه إثراء الاقتصاد وتطوير قدرات الإنتاج، مع رفع صلاحية العامل المصرى للمنافسة فى الأسواق الخارجية.
القرارات الأخيرة لا تنفصل عن سياق واسع يضع الأمور الاجتماعية فى مُقدّمة لائحة الأولويات. قبل شهرين أصدر الرئيس من المنيا قرارات شبيهة، تضمنت زيادة دخول الموظفين بحدٍّ أدنى 1000 جنيه، وزيادة المعاشات 15%، ورفع حدّ الإعفاء الضريبى بنحو 25%، وزيادة مُخصّصات «تكافل وكرامة» بنحو 15% أيضًا، فى حزمة دعم تُقدّر بأكثر من 60 مليار جنيه. الموقفان لا يمكن فصلهما عن الجهود المُتّصلة فى برامج الحماية الاجتماعية، ومشروع «حياة كريمة» بمراحله، ودعم المبادرات النوعية من عيّنة جهود التحالف الوطنى للعمل الأهلى، فضلاً عن المبادرات الرئاسية للصحة وعن منظومة الدعم. تتكامل كل العناصر معًا لتصنع سياقًا إنسانيًّا أكثر رأفة بالناس، وأقل تمريرًا للأعباء والضغوط الوافدة من الخارج أو المتشابكة بالداخل، والأهم ترسيخ حالة التضامن وتقديم تأكيدات دائمة على اجتهاد الدولة فى مُساندة الفقراء والمُهمّشين، واحتفائها بالعمل والإنتاج، وسعيها الدائم إلى صيغة من التوافق بين اشتراطات التنمية والتزامات التمكين الاجتماعى والاقتصادى، حتى تصبح الطبقات البسيطة أكثر قدرة على الحياة والتطوّر، وتمتلك الدولة روافع اقتصادية وتنموية تسمح بترقية تلك المعيشة مُستقبلاً، مع الوفاء باحتياجات النمو وخلق الوظائف وتوفير فرص التعليم والسكن والعلاج لبلد ينمو سُكّانيًّا بحجم دول إقليمية كاملة كل سنة.
قرابة قرن على «عيد العمال» منذ بدء الاحتفال به فى مصر سنة 1924 بمطالب من عمال الإسكندرية، بالضبط كما بدأ عالميًّا فى أستراليا قبل 167 سنة، ثم شيكاغو الأمريكية 1886.. فى كل المحطات كانت مطالب العمّال عنوانًا للحدث، واليوم نحتفل بينما العنوان الاستجابة الجادة لجانب من الاحتياجات، والسعى لتحسين بيئة العمل وضبط التوازن بين مكوناتها، المؤكَّد أن الاحتياجات كبيرة والأحلام أكبر، لكن الجدّية فى التعاطى مع المشهد تظل الضمانة الأهم والأقوى لإنجاز الاستحقاقات. تاريخ مصر وحاضرها مَدينان لسواعد العمّال كما قال الرئيس فى كلمته، والمستقبل لن تقوم دعائمه إلا بهم، والغاية أن تكون حياة الجميع أفضل بالتعاون والعمل المشترك.. هكذا تؤمن الدولة فى أرفع مستوياتها، وتحلم، وبالعمل وحده يُمكن أن تتحقَّق الأحلام.