المقدمات السليمة تبشر دائما بنتائج قويمة، والعتبة التى ولج منها الحوار الوطنى إلى المجال العام، بكل ما يشتمل عليه من تعقيد واحتدام، كانت مفتتحا إيجابيا لحالة يرجى لها أن تسد الثغرات، وتجسر الفجوات، وتفتح الباب على مساحة أكثر رحابة فى احتواء التنوع وإدارة الاختلافات. كان مشهد انطلاق الحوار مساء الأربعاء الماضى مثاليا للغاية، ليس لأنه قدم صورة وردية يتمناها كثيرون لما يمكن أن تكون عليه التفاعلات السياسية بين مكونات الساحة، على ما بينها من تفاوت وتناقضات، لكن لأنه أكد علنا، من دون خطابات عاطفية، وبممارسة عملية غير مقيدة، أننا لا نزال قادرين على الانخراط فى حالة جادة، استنادا لمرتكزات تحترم التمايزات والفروق الدقيقة، وتحفظ لكل طرف حقه فى اعتماد اللغة التى تعبر عنه ولا تفتئت على اختيارات الآخرين، وأن الأرضية الوطنية التى التقينا عليها فى 30 يونيو لا تزال راسخة وصالحة لاستيعاب الجميع. قد لا نصل إلى الغاية المقصودة سريعا، لكننا ننتهج الطريق الصحيح، وفى هذا ما يكفى للاطمئنان ويشجع على الاستمرار.
مبعث الحوار أن هناك احتياجا حقيقيا للجلوس إلى مائدة واحدة. الدعوة تعنى ضمن دلالاتها العديدة أن الظرف الراهن يفرض مسارا توافقيا تتكامل فيه الجهود، وبطبيعة الحال هناك ملفات عالقة يحملها كل فريق، وتتطلب الوصول إلى تسوية مقنعة، لكن من أجل أن ينضبط الإيقاع، لا يمكن أن تكون التسوية عرجاء، والمعنى أن كل من يحجل على ساق واحدة يتعين عليه أن يفتش عن ساقه الغائبة، معلنا ما فى صدره من مآخذ، معترفا بما عليه ومتحملا نصيبه من المسؤولية بموضوعية وشجاعة، من دون ذلك قد تصبح منصة الحوار حلبة ملاكمة بدلا من ساحة نقاش.
كلمة عمرو موسى بالجلسة الافتتاحية قدمت مزيجا متوازنا لحالة لا يقمع فيها الرأى ولا يغلب عليها الهوى، أثار أسئلة تشغله ويتبناها آخرون، قد نختلف فى نسبتها لكننا سنتفق على وجودها، وكان صريحا فى الاشتباك مع عناوين تخص الجدوى والوقت والأولويات، لكنه تعاطف أيضا مع إنجازات يصعب الاختلاف عليها من حيث الضرورة والجدية والأثر، امتدح أداء نظام الحكم، والرئيس تحديدا، فى مسارات التعليم والتنوير والعشوائيات وتأهيل سيناء وتمكين المرأة والشباب، وقدم رؤى وتصورات عن العدالة والحرية ومساندة الطبقة الوسطى، يمكن أن تتلاقى معه أو تخالفه فى بعض ما قال، وكيفية القول، المجال يسمح والحالة التى نقف بصددها ترى فى الاختلاف إفادة أكبر مما فى الاتفاق، المهم أن نسير جميعا فى طروحاتنا على ساقين، لا تستطيل إحداهما عن أختها، والإخفاق معناه أن تصبح خطواتنا قفزا فى المكان، يرهق البدن ولا يقود إلى شىء ذى جدوى.
أجواء الجلسة برهنت على دقة اختيار الوقت والسياق، حلقت فى الأفق حالة وئام لا تعكرها الاختلافات، وبدا الجميع يتحدثون بأريحية واتساع صدر، طول الإعداد سمح بتهذيب أحادية الرؤى وتقليم أظافر الأيديولوجيا لدى الشركاء، موالاة أو معارضة، المؤكد أن اللحظة الأولى للقاء على طاولة مجلس الأمناء كانت الأصعب، تأسيسا على ما سبقها من إرث ورواسب وتعطل لقنوات التواصل، ولأن سوء الفهم يتناسب عكسيا مع حسن التعارف، احتاج تذويب العقبات سنة كاملة وثلاثة وعشرين اجتماعا، فضلا عن لقاءات كثيفة بين مقررى اللجان، وعن فرص النقاشات الجزئية المعمقة بين التيارات، وداخل كل تيار. الواضح أن السطر الأبيض العريض بين دعوة الرئيس وانطلاق الحوار سوده الوقت بعبارات مفهومة للجميع: الموالاة استوعبت أن المعارضة ليست خصما للدولة وإن اختلفت مع السلطة، والمعارضة يبدو أنها تقبلت جانبا مما فرضته مرحلة ما بعد يونيو، وتفهمت أننا واجهنا خطرا وجوديا حقيقيا نشأت عنه استجابة استثنائية، صحيح أنها أثرت عليها لكنها كانت ضرورة ظرفية، لا سيما بالنظر إلى ما تعانيه ساحات إقليمية مجاورة تلقت ضربات تشبه ما كان يعد لمصر.. يمكن القول إن السنوات على صعوبتها صاغت قبولا ضمنيا لحقيقة أن أولوية تثبيت الدولة وكبح الإرهاب كانت خيارا صائبا، وأوضحت الأدلة ما أقره إجماع الأمناء، وتياراتهم خلفهم بالضرورة، باستبعاد ثلاثية «الدستور والأمن القومى والسياسة الخارجية » من التداول، ما يحمل إقرارا بشرعية تلك المسارات وكفاءتها، وثقة فى القائمين عليها، وبالتبعية استيعاب تسلسل الوقائع والتحديات التى بنيت عليها الاستراتيجيات محل التوافق.
تراص القاعة لم يخل من الدلالات، فبينما تدفق السياسيون ورؤساء الأحزاب من كل الصفوف للحديث، جلس رئيس الحكومة ووزراؤه فى الواجهة مستمعين.. المنصة لمكونات المجال العام من خارج السلطة، والذراع التنفيذية عليها أن تكون فى المتناول، وتسمع المتقدم والمتأخر، وتعى ما يقال وتمد يد العون بالمعلومات والأرقام، ثم تنفذ المخرجات تحت مظلة الرئاسة أو عبر مسار تشريعى، لكن لا يعنى ذلك أن «الحوار » بديل عن المؤسسات أو حكم عليها، ولا أنه برلمان مواز يوجه المشرعين أو يقتطع من صلاحياتهم، الأوقع أنه قاعدة تداول عريضة بين أجنحة المجتمع المدنى، تكتسب مقترحاتها قوة إبراء بالمرور عبر الرئيس، من حيث إنه رأس الدولة وجسر بين السلطات. الرسالة أننا إزاء بحث عن التقاء ناضج، لا عن تنازع واشتباك بين الحكومة وأصحاب الرأى، ربما لهذا تخلى الأمناء عن منطق التصويت لصالح التوافق، من أجل صرف الأذهان إلى الاهتمام بالأفكار بدلا عن المغالبة واستعراض العضلات.
تجلت الفلسفة نفسها فى جدول الانطلاق، عبر ما يمكن اعتباره «تمييزا إيجابيا » للمعارضة. شهدت الجلسة 28 مداخلة، وباستبعاد المنسق العام ورئيس الأمانة الفنية واثنين تكررا فى فاصلين، يتبقى 24 متحدثا «8 من الخبراء والمجتمع المدنى ومقررى المحاور والشخصيات الوازنة، و4 من أحزاب الموالاة، و12 من المعارضة بتنوعاتها، فضلا عن 8 سياسيين ظهروا فى التقرير المصور منهم 6 معارضين بينهم عضوان بمجلس الأمناء.
لا غضاضة ولا اعتراض إطلاقا، إذ لسنا بصدد محاصصة أو ترجمة للأوزان النسبية داخل المؤسسات أو فى الشارع، لكن المطلوب أن نقرأ الإشارات ونضعها فى الحسبان، حتى لا نخطئ فى الاستدلال واستخلاص الدروس.
لم يكن ضيق المجال العام وحده سبب خفوت الفاعلية الحزبية، ولن تكون المساحة المتاحة مهما اتسعت أداة الإنعاش الناجعة، ما لم تزيت الأحزاب تروسها وتحسن استيعاب اللحظة، دون تباطؤ مثلما حدث بعد ثورة يونيو، أو لهوجة وتخبط كما فى 2011.
المحاولات غير الكاملة للإجابة عن أسئلة دقيقة أفضل من الإجابات المكتملة لأسئلة غير دقيقة، وسؤال «الحوار » ينطلق من الماهية والغاية، لا يمكن لفريق أن يضبط مشاركته ثم يقيمها ويقيس جدواها، ما لم يستوعب أولا طبيعة المنصة ومنطلقاتها ومنافعها، جاءت الدعوة من الرئيس مباشرة، لا عبر الحكومة ولا بطلب الأحزاب، وهو بطبيعة الحال يستوعب الضغوط الراهنة ويعى حالة المناخ السياسى، وقد التزم بمبادرة شخصية خالصة بأن يرعى التفاعل ويستجيب لتوصياته، لعله لم يحضر جلسة الانطلاق حتى لا يشكل مقام الرئاسة ضغطا على توازنات القوى، أو قيدا ولو معنويا على شكل السجال ولغته وموضوعاته، وحتى فى فيديو كلمته الموجزة «لم يتخط خمس دقائق » وجه رسالة ترحيب بروتوكولية محايدة تماما، باحترام للجميع وتقدير لمجلس الأمناء ورغبة فى الانفتاح الكامل على كل الملفات، دون توجيه أو تأثير أو اقتراح لمسارات وعناوين.
المعنى أن القيادة توفر مظلة للجميع دون تفرقة، غرضها الاصطفاف مع الدولة لا نظام الحكم، والحوار آلية للفهم والتفاهم بالأساس، لكنه إلى جانب ذلك فرصة لتنشيط الأحزاب، ووصلها بالشارع، وتعويض ما فاتها، واكتشاف الكوادر وصقلها، لتكون رصيدا لدولاب الدولة وللقوى السياسية نفسها. أى تصور خارج ذلك أو محاولة للتعامل مع اللحظة باعتبارها تعبيرا عن مأزق، أو مدخلا للنزاع وفرض الإرادة، ربما يكون الجواب الخاطئ عن تساؤل صحيح.
انطلق الحوار الوطنى فى جولته النخبوية رسميا. جلسة الافتتاح سطر موجز من كتاب طويل. البداية لامعة وتعد بختام مجز، لكن المسؤوليات تتعاظم على كل الأطراف، والبصيرة وتمام النضج يوجبان التسليم بأننا نتلمس الخطى، ونشق طريقا حالمة فى أرض وعرة، والحساب من الشارع وأمام الذات عن سلامة الوصول لا عن اختصار زمن الرحلة، لذا يتعين على الجميع مناورة التضاريس بدلا من تعجل التداعى بأوزانهم النسبية على دواسة البنزين. الأزمات الموروثة قائمة وتعضدها تحديات جديدة وطارئة، والمخاطر تنتفخ وتتوالد من حولنا، لكن الفرصة مواتية لترميم «تحالف 30 يونيو »، والتساند حتى يتقوى كل فريق بالآخر، فالعبور وفق معادلة جديدة يكسب كل العابرين أرضا لم تكن بحوزتهم، ويجعل الشطب على أحدهم عسيرا، ناهيك عن إخلاله بالحسبة ونواتجها، كما أن ما يتعطل جزئيا مع الوفاق لن يحققه الشقاق أبدا. محنة «الإخوان » وسنة حكمهم السوداء كانت درسا بليغا، استوعبه الجميع بشروطه والتزاماته ومخاطره، فاجتازوا الاختبار الصعب، ومنحة «الحوار » الآن امتحان أيسر مما فات، إذ يلتقى أطرافه على مشترك وطنى، وعلى غاية عليا لا اختلاف فيها، المهم أن تصل الرسائل بين كل الأطراف على وجه سليم وفى التوقيت الصحيح.