الأسئلة المطروحة في "أغنية الغراب"، الروائي الطويل الأول للمخرج السعودي محمد السلمان، متعددة وكثيرة بشكل يتوازى مع أسئلة أخرى تتعلق بالسينما السعودية ذاتها، وأحوالها الراهنة والمستقبلية، وهي أسئلة معنية بالعمل السينمائي، وبالحرفية المهنية، كذلك بالجماليات البصرية والدرامية والسردية مما لاشك فيه، من هنا يُمكن اعتباره بمثابة تأكيد إضافيّ على محاولات السينما السعودية الناشئة، الدخول إلى آفاق أوسع بمستويات مختلفة في الشكل والمضمون والبناء الفيلمي، وهذا ما يحققه بأبعاد متنوعة "أغنية الغراب" الذي يُعد أحد ثمار الدعم الحكومي السعودي لصناعة السينما، من خلال مبادرة ضوء للأفلام التابعة لهيئة الأفلام السعودية (يُعرض حاليًا في مهرجان أفلام السعودية، ومن قبل كان في مهرجان البحر السينمائي، كما سبق اختياره لتمثيل السعودية رسميًا في مسابقة الأوسكار).
حساسية الفيلم وخصوصيته تتسلل إلى المتفرج منذ اللقطة الأولى.. لقطة مكثفة في ثوانٍ قليلة، تُثير القلق مع هذا الأب الذي يحطم شرائط الكاسيت، ومع كل دقة أو "خبطة" تهتز جدران البيت، بينما الأم تقف عاجزة وحزينة، والابن محور الحكاية عاجز هو أيضَا، عجز يساوي الغليان الكبير بداخله والذي لا يستطيع الإفصاح عنه، وحين يخرج من البيت تُمطر السماء أمخاخًا كثيرة، بما يعمق من حالة البطل التي نتعرف عليها تدريجيًا، في نص نوعي بكل ما فيه من فانتازيا ومقاربات واشتغالات رمزية، التزم المخرج بتقديمها وهو بالمناسبة كاتب الفيلم أيضًا، كما أنه يواصل بهذه الطريقة أسلوبه الذي اتبعه في أفلامه القصيرة منذ بدأ مشواره السينمائي منتقلًا من الهندسة إلى صناعة الأفلام، ليكون مخرجًا وكاتب سيناريو ومنتجًا، ومن أفلامه القصيرة:"من بين، لسان، 27 شعبان، ستارة"، وهي أفلام لا تخلو من الفانتازيا والخيال الواسع المنهمك في إنجاز فيلم سينمائي، يعكس جوانب نفسية وانفعالية وفكرية وحياتية لبشر، يعيشون غالبًا تغيرات كبيرة بدأت ارهاصاتها الأمس القريب.
بين اللقطة الأولى والنهاية في "أغنية الغراب"، يصنع محمد السلمان فيلمًا مليئًا بأحاسيس وحالات، تعكس وقائع وتفاصيل وكذلك انكسار وخيبة وأمل.. أشياء عدة مطروحة تعبيء الذاكرة، يرويها الفيلم بحرفية فنية تعبر عن فوران في روح وجسد البطل كما في روح وجسد جغرافيا بيئته، فالعلاقة الأساسية هنا هي علاقة البطل بذاته، علاقته المتنوعة بالأخر، علاقته بالحيوانات والطيور، بالغراب والحمامة، وكلها تحمل رموزًا وإشارات محفزة على الأسئلة، ومشيرة إلى أن هذه الأسئلة كامنة في رغبة محمد السلمان لسرد الحكاية بهذه الخصوصية، بما يحتمل قراءاتها من زوايا متعددة في نص يثير الدهشة والتأمل.
السياق الدرامي مترع بهواجس غير مرتبطة فقط بـ "ناصر"، الشخصية الرئيسية في الفيلم الذي تم تصويره في مدينة الرياض، الذي يكتشف إصابته بورم في المخ، ويُفتن بشابة غامضة بمجرد لقائهما، ويحاول الوصول لقلبها عن طريق أغنية.. شاب عادي يمر بتجربة تفوق تفكيره، يبدو ساذجًا في مجتمع قاسي: والده، صاحب الفندق، عامل الفندق، جماعات المثقفين التقليديين والحداثيين الذين قدمهم الفيلم بشكل هزلي، ضمن نسيج يجمع بين السخرية والسوداوية، إذن هذه الهواجس تمتد إلى الجميع بما فيهم العجوز الذي يقطن في الفندق، وهو الرمز الأبرز لكل هذا الهزل.
في هذا كلّه، يمتلك الفيلم لغة سينمائية حيوية تعبر عن المتاهة التي يعيش فيها البطل، وإن كان في حوار الفيلم بعض الهنات، لكن هذا لا يمنع أنه مشروع مهم لمخرجه ولسينما بلاده، يغوص في تحديات كثيرة وتم إنجازه في وجهة نظري كمغامرة كبيرة لا تنتظر نجاحات شباك التذاكر، يتضح ذلك من موضوعه وأسلوبيته واختيار الممثل الذي يقوم بالبطولة لأول مرة، وكلها مقومات لا تستهدف جمهور السينما التجارية، بقدر ما تتجه نحو تكريس تجربة فنية شديدة الخصوصية.