ربما تبقى ملفات السياسة الخارجية المصرية، أحد أهم القضايا المستبعدة من نقاشات الحوار الوطني، والذى انطلقت فعالياته فى الأسبوع الماضي، وهو ما يجد مبرراته المنطقية، فى ضوء العديد من الثوابت التى تدار بها، بالإضافة إلى كونها تتسم بقدر كبير من الحساسية المفرطة، التى من شأنها التأثير على مصالح الدولة، وبالتالى عدم جواز مناقشتها "على الملأ"، باعتبارها جزءً لا يتجزأ من قضايا الأمن القومي، خاصة وأن العلاقات بين الدول تحمل العديد من الكواليس التى لا يدرك أبعادها سوى دوائر صناعة القرار، وبالتالى يتطلب التعامل معها قدرا كبيرا من النضج السياسي، والإلمام بكافة التفاصيل، حتى يتسنى لها اتخاذ كافة القرارات المناسبة فى إطار الحفاظ على المصالح والعلاقات.
ولعل القرار باستبعاد قضايا السياسة الخارجية من موضوعات النقاش الخاصة بالحوار الوطني، يمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها حرص القائمين عليه على الاحتفاظ بأعلى درجات الشفافية، فى ظل مجموعة من المعايير، أبرزها علنية الجلسات، وعدم وجود أية خطوط حمراء خلال القضايا المطروحة للنقاش، وهو ما بدا واضحا فى الجلسة الافتتاحية، والتى شهدت مداخلات اتسمت بقدر كبير من القوة والوضوح خاصة فيما يتعلق بالأمور التى يثيرها الشارع المصري، دون مواربة، بالإضافة إلى كونه خطوة على طريق بناء "الجمهورية الجديدة"، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو مجتمعيًا، عبر إشراك كافة الفئات والأحزاب دون إقصاء، اللهم إلا من قرروا إقصاء أنفسهم بتلطيخ أياديهم بدماء المصريين.
ولكن على الرغم من استبعاد ملف السياسة الخارجية، من مناقشات الحوار الوطني، فإن الخطوة تحمل العديد من التأثيرات الإيجابية على موقع مصر الدولى والإقليمي، خاصة بعدما استلهمتها العديد من الدول فى إقليم الشرق الأوسط، وقررت تطبيقها، بعدما أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال إفطار الأسرة المصرية فى شهر أبريل من العام الماضي، من بينها العراق والجزائر وتونس، وغيرها، فى إطار ما اعتبرته فى مقال سابق بأن المبادرة المصرية تحمل نطاقًا إقليميًا، وهو ما يعكس حجم التأثير الذى تحظى به مصر على محيطها الدولى والإقليمي، ليس فقط من خلال سياستها الخارجية، وعلاقاتها مع العالم، أو دورها فيما يتعلق بالأزمات المحدقة بالكوكب، وإنما أيضا عبر تقديم نموذج ملهم فى الكيفية التى يمكن بها أن يتحقق الإصلاح.
النموذج الذى تقدمه الدولة المصرية، يبدو فعالا لدرجة كبيرة، فى ظل أزمات عدة تشهدها العديد من الدول المحيطة بها فى اللحظة الراهنة، حيث يقدم رؤية للمسار الذى ينبغى اتباعه، لتقديم حلول جذرية، خاصة فى المناطق التى مازالت تعانى الفوضى جراء التطورات الكبيرة التى شهدتها فى أعقاب "الربيع العربي"، عبر الجلوس على مائدة الحوار مع جميع أطراف المعادلة الوطنية، وهو الأمر الذى من شأنه تحويل حالة "الخصومة" مع الدولة إلى "شراكة"، لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار وتخفيف حدة الاستقطاب، ونزع فتيل الصراعات، التى قد تأكل الأخضر واليابس حال الفشل فى احتوائها.
وهنا نجد أنفسنا أمام حالة استثنائية، يجسدها الحوار الوطني، تتجاوز الداخل المصري، نحو دور أكبر فى إطار تقديم مسار عملى لحل الأزمات الإقليمية وإنهاء التداعيات الكبيرة للفوضى الناجمة عن حالة الفوضى التى ضربت المنطقة بأسرها فى العقد الماضي، وهو ما يساهم بصورة كبيرة فى تعزيز جدوى الإصلاح فى الداخل، ليحمل فى طياته بعدا أكبر، يتعلق بالتأثير المصرى الكبير فى مناطقها الجغرافية.
وفى الواقع، يمثل الحوار الوطني، بالرغم من طبيعته الداخلية المطلقة، مسارًا أخر غير مباشر للدور المصرى على المستوى الدولي، عبر استلهام التجربة، من قبل الدول الاخرى، بإلإضافة الى دورها المباشر القائم فى الأساس على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة، بينما يعمل المسارين معًا على أساس أحد أهم ثوابت السياسة الخارجية القائمة فى الأساس على عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما ترتكز عليه الدولة المصرية فى حديثها عن كافة الأوضاع الدولية المحيطة بها وأخرها الازمة السودانية، وهو ما منحها قدر كبير من الثقة الدولية، يمكن التلامس معه فى ظل النجاح الكبير لعمليات الإجلاء، والتى لم تقتصر على المصريين ولكننا امتدت إلى العديد من الرعايا الأجانب.
وهنا يمكننا القول بأن المزايا التى تتحقق من وراء الحوار الوطنى لا تقتصر من حيث النطاق على تحقيق المزيد من الإصلاح فى الداخل، وإنما تحمل أبعادًا دولية، تتجسد فى حالة من ازدواجية استبعاد السياسة الخارجية من دائرة النقاش، من جانب، ومركزيتها من حيث التأثير الكبير، خاصة على النطاق الإقليمي، عبر استلهام التجربة المصرية، والسعى نحو تطبيقها فى دول أخرى لوأد الصراعات وتقويضها، وهو ما يحقق حالة ممن الاستقرار على المستوى الاقليمى برمته.