هل صادفت مرة أن سمعت صوت أم كلثوم "يتسلل" إلى أذنيك وأنت تقف فى شرفة منزلك بعد منتصف الليل، لا تعرف من أين يأتى صوت "الست"، والشارع أمامك غارق فى "سابع نومة"؟.. هل سمعت صوت "العندليب" وأنت تجلس فى المقهى، ووجدت من حولك "متسلطنين" بأغنياته الصادرة من الراديو، رغم أن شاشة التليفزيون أمامكم تعرض فيلم أكشن؟
هل جلست يوما على "كنبة" البيت أمام التليفزيون، فوجدت فيلما لشادية أو إسماعيل ياسين، فقررت أن تشاهده لآخر لقطة، رغم أنك تكاد تحفظ جمله الحوارية، وأحداثه وأغانيه حتى كلمة النهاية؟
أشركك الآن فى تلك التساؤلات المحيرة، لا لأنتظر منك إجابة، ولكن لأتأمل تلك الحالة التى يمر بها الكثيرون، عشرات المرات فى اليوم الواحد، فأغانى "الست وحليم" موجودة بين يديك تقريبا فى هاتفك وعلى التليفزيون وفى الراديو وعلى الكومبيوتر وداخل "التابلت"، وكل ذلك "ببلاش"، ولكن لا أعرف لماذا لا تحلو تلك الأغنيات إلا حينما تأتى خلسة وعن طريق الصدفة البحتة، لماذا لا تكون تلك الأغانى بنفس المتعة، حينما أقرر أن أسمعها من الموبايل أو من أى مصدر آخر؟
نفس الأمر يتكرر مع أفلام شادية واسماعيل ياسين وغيرهما، فوجودها صدفة على التليفزيون، بعد يوم عمل شاق، يجبرنى على المتابعة، رغم وفرتها على المنصات، وعلى صفحات الانترنت وفى مواقع الفيديوهات الكبرى؟
لا أعرف لماذا تسببت وفرة الأشياء واتاحتها بشكل أكثر من اللازم فى إعاقة عملية التفاعل معها؟ هل هناك أسباب نفسية، تجعلنا دائما "دقة قديمة"، أم أن صعوبة الوصول للشيء، أكثر امتاعا من الشيء نفسه.
ما جعلنى أتأمل تلك الحالة الغريبة، هو كثرة الأعمال الدرامية فى موسم رمضان الماضى، فرغم وجود المسلسلات بين يديك، من خلال الانترنت، أو حتى المنصات صاحبة الحقوق، إلا أن حالة المشاهدة أمام التلفزيون، والتحكم فى التقليب بين القنوات المختلفة، وحتى الاعلانات المملة، تظل لها رونق، وتظل ألذ وأمتع بالنسبة لكثيرين من محبى الدراما التليفزيونية.
دائما هناك حالة من "الونس" يتسبب فيها التليفزيون أو الراديو، قد لا تتيحها التكنولوجيا الحديثة، والهواتف الذكية التى لا نتركها بعيدة عن أيدينا ولو للحظة واحدة.
أو ربما لأننا جيل تربى على انتظار الفيلم "الأبيض والأسود" عصر كل يوم على شاشة القناة الأولى أو مسلسل الساعة السابعة على القناة الثانية، حينما كانت العائلة تلتف حول مصدر واحد للمتعة سواء الراديو أو التليفزيون.
أما الآن، أصبح كل فرد من أفراد العائلة، يمتلك وسيلته الخاصة، وعالمه الافتراضى، ومادته المسلية، بعيدا عن الآخر وهو ما جعلنا نفتقد قيمة اجتماعية تكاد تختفى فى البيوت المصرية.
الحقيقة أننا لا ننتظر صوت أم كلثوم من مصدر مجهول، أو عبد الحليم من راديو القهوة، ولكنها المباغتة التى تلمس بداخلنا أوتار الماضى، وذكرياته الجميلة، ومشاهده التى لا تنسى.