محطة الزعيم.. ليست قصة للنجم عادل إمام ولا مجرد مرحلة في حياته، محطة الزعيم اسم منطقة موجودة في شارع الهرم نسبة لمسرحه الشهير الذي كان علامة كبيرة لمن يمر على هذا الشارع الضخم، تتزين جدرانه من الخارج بصورته والتي كنا نشاهدها ونحن صغار، تحديداً جيل الثمانينيات والتسعينيات على أنه متى يحين اليوم لنرى الزعيم بشكل مباشر، ومن الحكايات التي اشترك فيها هذا جيل هي امتلاكنا تليفزيون وجهاز الفيديو، نشتري أو نستأجر أو حتى نقوم باستعارة بعضها من الجيران والأصدقاء لأشرطة الأفلام والمسرحيات المسجلة لمشاهدتها، ولحسن الحظ كان لأبي صديق يمتلك متجر للفيديوهات، كل ذلك قبل عصر الدش والقنوات الفضائية بقليل، فعلى الرغم من مشاهدتنا للتلفاز إلا أنه كانت هناك أعمال لم تتوفر للعرض على الشاشة وقتها، وكان لازماً مشاهدتها عبر تأجير أو شراء شرائط الفيديو، وهو الأمر الذي اخذت في شرحه وقتاً طويلاً، بالاستعانة بصور لنا في تلك الحقبة، وأن أحكي لأولادي أصحاب جيل الألفية الجديدة الذين لم يعيشوا هذه المتعة في البحث عن شريط فيديو أو مسرحية كوميدية للزعيم لنشاهدها بكل تركيز، والاستمتاع لما يحدث في مسرح الزعيم.
أسميها حقبة لأنها كانت عمراً بأكمله، تغيرات تكنولوجية طرأت فجأة على مدار عقد أو عقد ونصف من الزمان، تغيرت فيها ملامح كثيرة في حياتي أو حياة من هم في مثل عمري، تذكرت أشرطة الفيديو وجلست أبحث عنها في المنزل، فلابد أن هناك شريطا هنا أو هناك، فوجدت بعضهم يعتليه الأتربة والغبار، وكأن مر عليهم زمن كبير، فأتذكر أنني واخي كنا نوزع الأفلام بحسب مشاهدتنا لها، فهناك بعض الأفلام التي كنا نشاهدها ولا نفهمها، أو نفهم المعنى وراءها على مقدار عقولنا في هذه الفترة، كانت تلك الأفلام مملة من وجهة نظرنا، ولكن أبي وامي كان لهم رأي آخر.
أسرتنا أو بيتنا بالأخص يعشق التجمع، وبخاصة تلك الأجواء العائلية التي كنا نحظى بها، ومهما كان الفيلم من وجهة نظرنا لا ينطوي على متعة لنا في ذلك الوقت، إلا أننا لم نضع لحظة واحدة في الوجود في مثل تلك الأجواء، كانت الأفلام الخاصة بنا هي تلك الأفلام الكوميدية الترفيهية، وبعض من أفلام الأكشن والانتقام والثأر وأحياناً الكارتون، ومع ذلك كنا نشاهد ايضاً الأفلام الدرامية والغامضة واحياناً افلام الجريمة كلها من بطولة الزعيم عادل إمام.
شاهدت أفلاما عديدة للفنان عادل إمام، ولكن ليست بترتيب تاريخي، بل كان كل ما يقع تحت ايدينا، من أول "رسالة إلى الوالي" لـ "بخيت وعديلة" بجزئيه لـ "الأفوكاتو" مروراً بكل مسرحياته التي إلى الآن تضحكنا من قلوبنا، وأحياناً كنا نشاهد ما يتوافق عليه والداي في سهراتنا، شاهدت المنسي والحريف وحتى لا يطير الدخان والغول وخلي بالك من عقلك والعديد مما لا أقدر أن أتذكر أسماءهم وأحصيهم.
أعترف بأنني لم أفهم تلك الأفلام في وقتها، لغلبة الطابع الإنساني والاجتماعي في ذلك الوقت، ولكنني حاولت مشاهدة تلك الأفلام مجدداً وأكثر من مرة، خاصة بعد تداول بعض المقاطع لها عبر مواقع التواصل الإجتماعي، تلك الأعمال حفرت في ذاكرتنا ولازالت موجودة حتى الآن، على الرغم من عدم فهمنا لمعناها، إلا بعد فترة ليست كبيرة ومنها فيلم الحريف، الشخص الذي أختار أن يلعب مع الخاسر حتى يثبت أن بإمكانه النجاح.
لا أدري أهي القصة أم تناول القصة أم الموسيقى والصورة لتلك المشاهد، ولكن كل هذا ليس بذات تأثير إلا من خلال اقتناعنا بالشخصية التي يؤديها الممثل، وقدرته على تقمص الشخصية، وتأديتها بشكل يسمح لعقولنا كل مرة بتقبل نفس الفنان بكل شخصياته في أعماله الفنية، والحقيقة أن أمثال ذلك الفنان قلة ويتعذر إيجاد مثلهم إلا مرة كل جيل، إلا الزعيم، فإنه استطاع التأثير في أجيال مختلفة، بصورة مباشرة و غير مباشرة، انتقاؤه للمواضيع واختلافات الشخصيات والأعمال بشكل عام يمنحه تفرد في السينما المصرية.
عادل إمام يصنع عملاً درامياً ليعيش مدى الحياة بيننا، عبقريته الفريدة جعلته حريفاً في هذه الزاوية التي كانت غير معتادة منه، نجم درامي من الطراز الأول، يستطيع تجسيد إحساس الألم والحزن مثله مثل الضحك، حالياً فهمت أن تلك الأعمال على الرغم من ظهورها في شكل درامي إلا ان لها أبعادا عديدة، فلم أكن لأستمع لأحد التفسيرات وأقتنع به بدون فهم الصورة كاملة وهذا ما اكتسبته مع مرور الوقت.
فكيف أثر في الزعيم وفي نشأتي؟ حسناً؛ تناول أي شخصية في الأعمال الفنية ينبغي أن يبنى على الصورة الذهنية للمتلقي، فكيف أفهم أن ذلك الفنان يقوم بدور محام أو صحفي أو حتى لاعب كرة؟ أهو الشكل الخارجي فقط؟ فعلاً الشكل الخارجي يصنع الصورة الذهنية ولكنه لا يكفي لفهم التعقيدات الداخلية والأزمات التي تمر بها الشخصية، قدرة الفنان على توصيل تلك الاحاسيس للمتلقي هي الإبداع بحد ذاته، التأثر والتأثير المتبادل، تحول المتلقي لإعتناق وتمثيل الشخصية داخلياً، والأحساس بأنفعالاته وازماته وعما يدور بخاطره وينوي القيام به..
الدور الأكبر صاحب التأثير في نظري هو دوره في الحريف، هو دور لم يلق استحساني وأنا طفلة، ولكنه أدار عقلي بطريقة جديدة، لم اكن اتخيلها من قبل، من خلال نزع النمطية في أعمال الفنان الواحد، وأيضاً البعد الأجتماعي للعمل الفني وقدرة الفنان على الأحتكاك بالمجتمع بتلك الطريقة، فهو لم يجسد ظاهرة في المجتمع، بل كان الظاهرة نفسها تجسيداً، استطاع رسم شخصية حقيقية تتواجد في الواقع، حديثه الواقعي الطبيعي، لقطات الصمت الابلغ من الكلام والحديث المطول، واضافته هالة من الواقعية اثرت في زملائه في العمل، فمن منا لا يتذكر مشهد عادل امام مع نجاح الموجي عندما قاموا بدفع سيارة عطلانة بالفيلم؟ لقطة صامتة مليئة بالكلام غير المنطوق، وبمشاعر صعبة استطاع توصيلها للمشاهد ولي بشكل خاص، لحظات قليلة كانت كافية للأحساس بشعوره..
تأثري بأعمال الزعيم وذلك العمل بالأخص بناء على مدى إدراكي لمعنى الفيلم، أو بالمعنى الذي أدركته في خر لقطات الفيلم بشكل أدق، لماذا لعب الحريف مع الفريق الخاسر؟ أهي محاولة منه لإثبات قدرته على الصمود والتميز آخر الأمر؟ أم قدرته على تحقيق هدف حقيقي في حياته؟ او ربما إثبات أنه بإمكانه الفور أمام ابنه؟ لا أستطيع حصر كل ما فهمته فقط من النهاية، ولكني واثقة أن كل تلك المعاني مجتمعة أصبحت جزءا من تكويني الشخصي منذ صغري، واستمرت معي داخلياً لم أستطع تفسيرها إلا بعد فترة طويلة..
أصبحت أكثر وعياً وفهماً وإدراكاً من خلال تلك الأعمال، كان لها دور كبير في بناء شخصيتي، والحق يقال إن البعد الاجتماعي والإنساني قد مكنني من استيعاب الواقع، وهذه الحسنة الاكبر في تلك الأعمال، أنها مكنتني من إدراك الواقع من خلال الإحساس والمعايشة، وهو أمر لم أتعلمه في المدرسة، فمن يتخيل أن الحريف استطاع التأثير على بكل ذلك؟
لذا في عيد ميلاد الزعيم عادل إمام أود أن أشكره بشكل شخصي قبل شكره كفنان متكامل، استطاع التأثير في الوطن العربي بأكمله، أشكره على انتقائه للمواضيع، تحديه لأزمات داخلية وخارجية، أشكره لتجسيده مشكلاتنا، وأشكره لأنه استطاع أن يثبت ولو على الأقل لي أنه بالإمكان تحقيق النجاح، ولكن ينبغي اختيار الطريق المناسب الذي يجب الفوز به حتى ولو كان يبدو خسران في التحدي.