نحو خمس دقائق قضيتها في مشاهدة الفيلم القصير" أزرق"، (شارك في مهرجان صنع بشغف بالبحرين، يُعرض في مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي 14-18 يونيو المقبل)، خمس دقائق مفتوحة على قراءات متعددة، بدرجة أدهشتني؛ ليس لأنه فقط مشغول بحرفية وإنما لقدرته على إلغاء الأسئلة، بالرغم من أن الفيلم في حد ذاته هو سؤال كبير يتعلق بالحياة والوجود، وهذا في رأيي يعكس قوة البناء والسرد وانفتاح المخرج على الصورة والتكوين البصري.
المخرج هو البحريني عمار زينل، مخرج وممثل ومؤسس Kinetoscope Production في البحرين، ويعد هذا الفيلم محطة جديدة في السياق المهني له، خطوة مستقلة أو يمكن اعتبارها مكملة لاشتغالاته الفنية المتعددة، يقدم خلالها تصورًا سينمائيًا لقصة محمد النبهان، لنرى من خلال ممثليه: نادية الملا، علي مشعل، حسين الشرقي، رقية صادق، جعفر محمد الفلامارزي، ثلاث مراحل متدرجة من الكبر إلى الشباب إلى الطفولة، متسللة بسؤال فلسفي مؤرق عن الزمن، وهنا يلعب المونتاج دورًا مهمًا مع الفكرة بما يُكثف من دلالاتها.
عند مشاهدتي الفيلم للمرة الأولى، لم أدرك استجابتي له، مع أنه يُفترض على الأغلب الاستجابة للفيلم في المشاهدة الأولى. أحيانًا، يصعب عليّ إدراك العمل السينمائي سريعًا، وأحيانًا أكون متورطة انفعاليًا في العمل، لذا أفضل الابتعاد عنه مسافة، فقد يكون هذا الابتعاد وسيلة للعودة إليه، وهذا ما حدث هنا في فيلم شديد الخصوصية، يبدو ذاتيًا، لكن بالتمعن في تفاصيله نجده مُشرع على مشتركات وأمور ولحظات إنسانية أشمل، فالسؤال الوجودي هو نواة الفيلم وفضاؤه الذاهب إلى أسئلة الحياة والذاكرة والخوف، والأشكال البصرية فيه مبنية على خليط الصورة والسرد، الكلمات سمة رئيسية، شاعرية تتمركز حول هذا التنويع على الحياة والوجود.
الصورة تعني المخرج بشكل كبير، نلحظ ذلك منذ استهلال الفيلم على البحر والسماء والتكوين التدريجي للمشهد بكاميرا المصور حسين فولاذ، إنها تحقق إشباع الرغبة الفنية في ذات المخرج، وتنفتح على قدرات المخيّلة والعقل بما يصحبها من مؤثرات صوتية: البحر الممتد لأفق رحب، الريح واهتزازاتها، النورس الصاعد لسماء أكثر اتساعًا، بما يحمله من دلالات التجدد في الحياة.. في تصوري هذا نوع سينمائي مرغوب فيه بالنسبة إلى العاملين على كسر الجمود العقلي ومقاومة موت المخيلة، غير أنه دعوة إلى الاغتسال بالجماليات البصرية في نص مليء بالحميمية والمشاعر.
نسق سينمائي في قالب معتمد، أساسًا، وهذه إحدى الميزات الجمالية في الفيلم، على الصورة وتداخل الكلمات مع الموسيقى التي وضعها محمد المرباطي، قام بتأليف العديد من الموسيقى التصويرية للأفلام القصيرة والمسرحيات، وقام بتلحين العديد من القصائد لشعراء بحرينيين وعرب.. الموسيقى تعتمد البيانو والآلات الوترية، وتتماهى مع الحوار في المراحل الثلاث والسؤال عن الزمن الذي مر بسرعة مثل النورس الذي يقتحم الكادر ويختفي في لمح البصر، بل أسرع، فكم يعيش النورس أو كم نورس عاش؟ أو كم حياة نعيش نحن، وما هو الزمن؟ إنه أزرق، كما يجيب الطفل في المرحلة الأخير وهو يركض صوب البحر، بينما النورس يأت مسرعًا بين أزرق السماء وأزرق البحر.
الأزرق المنبسط أمامنا أثيري ولا نهائي، من السماء إلى البحر، حر وملهم ، كما أن للأزرق تأثيره العاطفي الكبير، وغالبًا الأشخاص الذين يرتبطون بالأزرق يكونون هادئين وربما يعتريهم غموض ما، يكون لديهم هذا العمق الذي يضم الكثير من الأسئلة، كما يداري حزنًا وهواجسًا قد تسبب أي تشوش أو إزعاج، وعلى هذا الأساس يظهر الفيلم كمحاولة للتنقيب في الأحوال الوجودية، مرسوم بشفافية مخرج قادر على تقديم ما يتلاءم وهاجسه السينمائي والثقافي، ثم يمكن للمتفرج قراءته وفقًا لمزاجه وانفعاله، واستجابته لمقاومة للخوف وتأمل الحياة وفتنتها، ومناقشة أفكار مثل التخلي والتمسك، الفكرتان فيهما ندم وإهانة كما ورد في حوار الفيلم.
الفيلم تجربة فردية كحال السينما عمومًا في البحرين، صادفت تجربة فردية أخرى وهي "في حذائي" للمخرج لؤي التتان، شهدته في مهرجان أفلام السعودية الدورة الفائتة، كما تشهد التجربة البحرينية مؤخرًا أسماء لامعة وفاعلة مثل محمد راشد بوعلي، أخرج العديد من الأفلام القصيرة التي بدأها بفيلم "بينهم" في عام 2006، ثم تلاها بأفلام من الغرب، غياب، البشارة، كناري، هنا لندن، تحت السماء، شجرة الحياة، وحصل على العديد من الجوائز وشهادات التقدير المختلفة.. إضافة إلى أسماء أخرى مثل: علي العلي، محمد سلمان، محمد إبراهيم و.. غيرهم قدموا أفلامًا قصيرة بمجهود فردي، أو اتجهوا للعمل في المسلسلات التليفزيونية.
إنه لأمر مثير للتأمل بالفعل، خصوصًا أن البحرين هي الأقدم سينمائيًا في جغرافيا الخليج العربي، سواء في صناعة الأفلام أو إقامة المهرجانات السينمائية، وأن هذا البلد رغم صغر مساحته، يمتلك أكثر من 40 صالة عرض سينمائية، بل أن تاريخ صالات العرض فيه يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، كما أن تجربته السينمائية طوال الوقت هي تجربة فردية، ويشهد مشوار المخرج والمنتج بسام الذوادي على ذلك، كأحد أبرز العاملين في مجال الإخراج السينمائي في البحرين، منذ تخرجه في العام 1983 من قسم الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وترسيخه لتجربة البحرين السينمائية بأفلام عدة، بل أنه قدم أول فيلم روائي بحريني هو "الحاجز" (1990) وهو بالمناسبة الفيلم الذي وضع هاني شنودة موسيقاه التصويرية، تلاه أفلام روائية أخرى مثل "الزائر"، "حكاية بحرينية"، هذا غير رفاق الرحلة من أمثال السيناريست فريد رمضان، ومدير التصوير خليفة شاهين، بخلاف حركة نقدية رفيعة دشنها نادي سينما البحرين وضمت أسماء مهمة وفاعلة مثل: أمين صالح، نادر المسقطي، منصورة الجمري، يوسف فولاذ، حميد كريمي و.. آخرون.
الحال السينمائي إذن في البحرين يحتاج دعمًا وقوة دفع كبيرة تلائم التغيرات والتجليات الثقافية الأخيرة التي تحدث في المنطقة، بل يجب أن تتعاون بشكل أو أخر في هذا التغيير الذي تحدثه الجارة السعودية بقوة مؤخرًا، فهذا بدوره يصنع حضورًا سينمائيًا عربيًا متجددًا، وهذا أيضًا موضوع لم ينته الكلام بصدده، إنما نواصله في مناسبات أخرى.