بدأ الحوار الوطنى أسبوعه الثانى، حاملاً تجربة عملية مُبشّرة من أيامه الأولى، باثنتى عشرة جلسة موزّعة على سبع لجان وثمانى قضايا لا تخلو من سخونة، و1600 مشارك و400 صحفى ومئات المُتحدّثين من كل التيارات.
إنجاز الفروض وعبور امتحان البدايات يُعزّزان التفاؤل تجاه الحوار، ويُحفّزان الإقبال والمشاركة، ويُبشّران بتعميق الممارسة اليومية داخل حواضنه؛ بما يسمح لا بالتوافق المُلطّف للعلاقات فقط؛ إنما بإثراء المُداخلات وتعميق الأفكار وصولا إلى خطط صالحة للتطبيق؛ لا سيّما مع العبور الآمن لفجواتٍ اعتبرها البعض أسوارًا شائكة وحقول ألغام، ومثالاً فقد انتقل «المحور السياسى» من نظام الانتخاب والتعاونيات ومكافحة التمييز، إلى المحليات والأحزاب بكل ميراثهما القديم وتناقضاتهما الراهنة، وكلها عناوين كانت مُرشّحة لإثارة التشابك الخشن أكثر من الحوار الرصين. يُمكن الرهان الآن على أننا إزاء منصّة وقور، تحتكم لمرجعية الدستور وقيم تحالف 30 يونيو محفوفة بخبرات الماضى وتجارب الواقع، ويعرف كل أطرافها ما يتعيّن عليهم إنجازه، ويُديرون الخلافات ببراجماتية ناضجة، تُوقن بأنه لا مجال للمُغالبة والإقصاء ومنطق «كل شىء أو لا شىء».
تداولت جلسات الأحد فى ملفّى المحليات والأحزاب. يرتبط الأمران معًا، وكل منهما يؤثر فى الآخر قوّة أو ضعفًا، ولا ينفصلان عن «نظام الانتخاب» الذى أُثير سابقًا. فى موضوع المجالس المحلية قدّموا أفكارًا جديرة بالنظر، وبدا التفاهم عريضًا والاختلافات أقل، رغم أن الأمر لا يخلو من تعقيدٍ يتصل بتفضيل الأحزاب للقوائم بنوعيها، بينما المحليات بالطبيعة والدور أقرب إلى النظام الفردى، وتحتاج ارتباطا وثيقًا بين العضو وناخبيه على قاعدة الخدمات والمصالح المباشرة، لا الأيديولوجيا فقط، وفى ذلك تحدٍّ يخص الفئات المميزة إيجابيًّا بـ«الكوتة»، والأهم أن يُضمن لتلك المجالس استقلال يُحرّرها من سطوة نواب البرلمان على الدوائر؛ ليتفرغ الأخيرون للرقابة والتشريع كما يُفترض فيهم. أما فى شق «الأحزاب» فالقضية أكثر إرباكًا، ورغم اتفاق يُقارب التطابق بين أغلب المُتحدّثين، ربما لأن فى ذلك مصلحةً لكياناتهم، يظل الأمر فى حاجة لتمحيص ومُقاربات أعمق وأكثر تجرُّدًا.
تحتاج الأحزاب إلى دعم من الدولة، ونحتاج جميعًا إلى كيانات تستحق هذا الإسناد. المنفعة مُتبادلة بين امتلاك بيئة سياسية خصبة، وحوكمة مُؤسَّساتها؛ لكن السؤال يظل قائمًا عن المساحة الآمنة التى لا تصبح تلك الصيغة عندها تدخُّلاً مُعطّلاً أو تشجيعًا على الكسل، والحقيقة أن الإجابة لدى الأبنية الحزبية لا المنظومة الرسمية، بمعنى ما حدود الحقوق والالتزامات المقبولة والمنطقية؟ وإلى أى مدى يمكن التوافق مع الضوابط الواجبة وعدم توظيفها لاحقًا فى اختصام الدولة أو المزايدة عليها؟ من غير الوارد أن يُترك المجال العام رهن رغبات الأشخاص، بما فيها من تفاوت وصراعات بين الطيف الأيديولوجى العريض وداخل كل تيار، ومن ثم يجب أن تكون المسؤوليات واضحة بقدر الوضوح فى إعلان المطالب والبحث عن المُكتسبات.
فى ظرف سابق، تمتّعت الأحزاب بمنحة مالية سنوية دون أعباء مُقابلة، حتى أن بعضها كانت تنفقها على أمور هامشية ومزايا لقادتها. إذا أُعيد تخيُّل المشهد، فما الأُسس التى يجب أن تستند إليها فواتير الدعم؟ لا منطق فى أن يحدث ذلك بمجرد التأسيس؛ ليبدو كأنه منحة وجود من دون حضور فاعل أو أثر حقيقى، مع مُخاطرة أن ينفخ فقّاعة المجال الحزبى ويُضاعف الأعداد المُتضخّمة أصلاً، ناهيك عن أن هناك أحزابًا عاجزة عن تحرير شهادة ميلادها رغم الشروط اليسيرة «أحدها تحت التأسيس منذ عشر سنوات» ما قد يجعل الميزة المالية حافزًا لإنتاج لافتات لا مُؤسَّسات، كما أن ربط الأمر بنشاط فعلى وعتبة برلمانية «مقاعد أو نسب تصويت» يضع العربة أمام الحصان، إذ لو امتلك الحزب قاعدة وكوادر وتمثيلاً نيابيًّا، فمعنى ذلك أن لديه قدرات تفوق محدودية الدعم المُنتظر.
بعض التيارات يُطالبون بتكرار التجربة، من دون تطوير الرؤية أو تقديم تصورات أكثر كفاءة، والحقيقة أن المسألة تكتنفها تحديات، فإذا مُنح المال دون شروط قد يبدو إفسادًا، وإذا رُبط بالأداء ربما يعتبره البعض تفرقةً وانحيازًا. الأمر نفسه فى اقتراح السماح للأحزاب بامتلاك مشروعات اقتصادية، وهو مسار يُهدّد بإفساد السياسة والاقتصاد معًا، عبر تخصيب بيئة داعمة للنزاعات الداخلية، أو ترك آثار سلبية على السوق وكفاءة المنافسة. الأوقع أن تُدار الحزبية فى سياقها الأهلى بعيدًا عن التدليل، وعن موازنة الدولة؛ حتى تكون ملكية خالصةً لجمهورها، ورقيبًا على المال العام لا مُستفيدًا منه، وطاقة دفع لإثراء الموارد لا عبئًا عليها؛ وحتى ترتسم علاقتها بالسلطة وفق مُعادلة واحدة مُتجرّدة، سواء كانت على يمينها أو يسارها أو فى قمّتها. ليس منطقيًّا أن يُدفع مُقابل دون عمل، وإذا تحقّق العمل المُنتج فلا حاجة للهِبات المجانية.
التحزّب من أبنية المجتمع المدنى، والأصل أنه تطوع يُموّله الأفراد. إتاحة المجال لمساهمات الأشخاص الاعتباريين لا تختلف فى الأثر عن تمويل الدولة، وتزيد فى أنها قد تفتح الباب على أنشطة غير مشروعة من الرشاوى وغسل الأموال أو التهرّب الضريبى. مسألة الإعلام أيضًا تستدعى النظر، فبين قانون الأحزاب الذى يُنظّم صحفها الورقية، وقانون تنظيم الإعلام القيّم على المنصّات الرقمية، قد يبدو منطقيًّا البحث عن مزايا فى التراخيص والرسوم والضرائب، وربما الإعلانات العامة أيضًا؛ لكن من دون إطلاق منزوع الضوابط؛ حتى لا يتحوّل الأمر إلى نشاط بديل عن شُغلها الأصلى، أو قناة خلفية لاستجلاب الأموال وتجارة الفرص السهلة. لدينا تجربة سابقة مع حزب تفرّغ لإصدار الجرائد وتأجير بعضها لتيارات غير شرعية، وليس من مصلحة السياسة والإعلام، ولا الأحزاب نفسها، أن يُترك الباب مفتوحًا لتكرار الأخطاء.
البيئة السياسية تُعانى تُخمة حزبية. أكثر من 100 كيان لم ينجح إلا 13 فى دخول البرلمان، فضلاً عن تطابق بعضها فى الأفكار والبرامج؛ ولا تزال عشرات المحاولات مُعلّقة مع طلبات تأسيس ناقصة ومساحات تميّز غير مضمونة، بينما لا قضايا خلافية تُبرّر هذا التضخّم، أى أن مُستهدف التعدُّدية من حيث كونها مدخلاً للتنوّع والثراء لم يتحقّق، وغابت الفاعلية، وأصبح الهدف إرساء مراكز معنوية تُحقّق الوجاهة، وربما المنفعة، لبعض القيّمين عليها. أمام تلك الصورة تُصبح الحوكمة شرطًا لازمًا، وغاية ينبغى أن يطلبها الجادّون داخل الأحزاب قبل غيرهم. الحوكمة المالية بما تفرضه من ضبط مسارات التمويل والإنفاق وفصل الشخصى عن العام، والإدارية بما تعنيه من ديمقراطية وتداول سلطة وتوزيع صلاحيات وانتخاب مُباشر لكل المواقع. يضمن ذلك عافية الأبنية الحزبية وتحصينها من تصدّعات الداخل؛ والأهم أنه يُحقّق استقامة الفكر والممارسة؛ من حيث تقديم برهان عملى على ما يُرفع من شعارات فى وجه السلطة، وما يُطلب من مُرتكزات لإدارة توازنات القوى وصراعات الصناديق.
لا يستقيم أن تظل الحياة السياسية رهنًا لعلاقة الأحزاب بالدولة، إن وفاقًا أو شِقاقًا، فإذا زادت مساحات التقاطع بينهما فرحت بالقبول والوجود السهل، وإن تقطّعت السبل انزوت شاكيةً عبء الجفاء. ينبغى أن يبحث الحزبيّون عن مسارات للعيش بغض النظر عن طبيعة التوازنات مع السلطة؛ لأنها خصم لها من حيث يُفترض أن تُقدّم البديل، ولأن الشارع لن يُراهن عليها ما لم تمتلك أسباب الوجود غير العارض بمعزل عن تبدّلات المجال العام. إلى اللحظة لا تبدو البدائل قائمة، أو فى وارد البحث عنها، ناهيك عن إمكانية تحقيقها.. مشكلات الأحزاب تنشأ من داخلها أوّلاً، وعافيتها أيضًا، فالتنظيم يسبق الشعبية وإن تعامت عن ذلك، وليس بالإمكان إنكار أن أغلبها لم تعد تحظى بقبول أو بنظرة إيجابية من الناس، يُضاف إلى ذلك قصورها فى التثقيف والتدريب وإعداد الكوادر، وخلط كثير منها بين الالتقاء الأيديولوجى والتحالفات الظرفية، أو بين السياسة والدين والأدوار الاجتماعية، واستناد بعضها إلى مُرتكزات فئوية أو عائلية أو دوائر منفعة ضيقة. ما يُميّز الحزب عن أى هيكلة مدنية أخرى رغبته وأهليّته وسعيه إلى الحُكم، ويتطلّب ذلك روافع حقيقية، تنظيمًا وفكرًا وعملاً وأهدافًا مرحلية واستراتيجية، بينما لا جاهزية للمنافسة على 60 ألف مقعد محلّيات بقدر التشدُّد فى طلبها، ولا حصة عضويات من 100 مليون بما يُكافئ عدد الكيانات. الظاهر الآن من غابة اللافتات المُتزاحمة بطفيف اختلافاتٍ ونُدرة تمايز، أنها تخلّت عن أدوارها بأكبر ممّا مُنعت عنها، واختصام الدولة أو تحميلها المسؤولية ليسا حلاًّ؛ فالسؤال بين الجدية والاستسهال، الفطام والطفيلية، والقدرة على السير فى الطريق مُنفردين أو إدمان التساند إلى حوائط حاملة.
تحلّت كثير من اقتراحات «الحوار» بالواقعية، وبدا بعضها مُغرقًا فى المبالغة. ليس مطلوبًا أن يُحال العمل السياسى إلى نزهةٍ أو يكون مكافأة لمُمارسيه، ولأنه خطوة إعداد وتجهيز قد تُفضى إلى السلطة، يتعيّن أن يُؤخذ غِلابًا وعبر شُغل حقيقى. هكذا لا يبدو مُريحًا مطالبة البعض بتخفيف الشروط أو تقليص أعداد المؤسِّسين، وتوسعة مصادر التمويل والسماح بأنشطة ربحيّة، وإلزام الدولة بالمُساندة المالية مع دعم غير مُباشر فى المقرّات والتسويق. تبرعات المواطنين تصويت لا يجب تجاهله، وتدخّل الدولة بالتمويل ربما يكون افتئاتًا ضد الديمقراطية السابقة على الصناديق. يتفق الجميع على أهمية تنشيط الحياة الحزبية، وينبغى أن يتقاسموا المسؤولية عن ذلك، ويحمل كل طرف نصيبه من الأعباء. كثرة المطالب من معانيها أن فريقًا ربما يُريد الحصاد دون شراكة فى أعمال الحقل.
لا خلاف على إثارة مسائل فتح المجال العام وتعديل القانون وتيسير التأسيس وتعزيز المُنافسة، ومنح تسهيلات لوجستية تُحفّز أنشطة المقرّات والعضوية وفعاليات الشارع ومعسكرات التثقيف، وحتى لو اتّسع الأمر إلى تمويل محدودٍ لحين استعادة مناخٍ كامل العافية؛ يتعيّن ربطه بالتزامات فى النشاط والمشاركة السياسية والمجتمعية، وعقوبات تصل للشطب أو الدمج الإجبارى. النقطة الأخيرة تحتاج تقنينًا يسمح بالتحالفات والائتلافات على قواعد مُؤقّتة أو دائمة، مع أُطر تنظيم وآليات رصد ومُساءلة وفضّ للنزاعات. بحسب مُقرّر اللجنة تقدم 66 حزبًا بمقترحات للحوار، أى أن 40 % تقريبًا لا رغبة لديهم ولا قدرة أو رؤية للمشاركة، ويتسع الغياب حتى أن بعضهم لم يدفع بمُرشحين برلمانيين. إذا كانت الحزبية غايةً حقيقية فى ذاتها، لا وفق ما تضمنه لمن يقطنونها، فإن الأحزاب تحتاج طرحًا مُغايرًا، يبدأ من اعترافها بالأخطاء وإقرارها بالواقع، وتحمُّل حصّتها من اللوم بقدر ما تلوم الآخرين، والأهم شجاعة كلٍّ منها فى الانخراط مع الناس تحت أى ظرف، أو المُبادرة بإطلاق «رصاصة الرحمة» على نفسه قبل أن يُطلقها الناخبون.