أحب إنجلترا كثيراً. لطالما أحببتها وسأظل أحبها. أشعر بسعادة عارمة عندما تغطّى سجادة من الثلج الحديقة والحقول المحيطة بمنزلى فى الريف البريطانى أو عندما أخرج فى نزهة مع أصدقائى عند الضفاف الخضراء الرائعة لنهر التايمز ونشاهد طيور الأوز. إنه السلام، السلام التام!
تجسّد بريطانيا العظمى فى نظرى ذروة الديمقراطيات الغربية؛ إنها واحدة من الأماكن القليلة فى العالم حيث يتمتع المواطنون من جميع الأصول والأعراق والألوان بالتكافؤ فى الفرص والإنصاف فى المعاملة، وحيث الفساد هو الاستثناء وليس القاعدة.
بعض القادة المعاصرين الذين أكنّ لهم الإعجاب الأكبر هم بريطانيون، وعلى رأسهم سير ونستون تشرشل، والسيدة مارغريت تاتشر، وجلالة الملكة إليزابيث الثانية التى تستحق عن حق احترام الجميع نظراً إلى رقيّها فى السلوك. هؤلاء الأشخاص وسواهم الكثيرون، منهم علماء ومستكشِفون ومخترعون وفلاسفة وفنانون وكتّاب ورواد أعمال، جعلوا هذه البلاد أمة عظيمة. لكن يؤلمنى القول بأن بلداناً أخرى بدأت تتفوق على بريطانيا بأشواط فى مجالات عدّة.
على سبيل المثال، لفتتنى هذا الصيف نزعة توغّلت إلى كل المهن تقريباً، وتسبّبت لى بإزعاج شديد، وأنا على يقين من أن عدداً كبيراً من البريطانيين يتعاطف معى ويتفهّم مشاعر الغضب التى تراودنى. كل ما أحتاج إلى القيام به فى المملكة المتحدة بات يستغرق وقتاً أطول بكثير من اللازم.
أبسط الأمور التى يمكن إنجازها فى يوم أو اثنين فى وطنى الأم، الإمارات العربية المتحدة، تتطلب دائماً فى بريطانيا خوض معركة شاقة تستنفد صبرى. وهذا ليس أمراً إيجابياً لبلدٍ يستعد للخروج من السوق الأوروبية الموحّدة ويسعى إلى دخول أسواق جديدة فى العالم واكتساب ميزة تنافسية.
على سبيل المثال، استغرقت أسبوعاً لأحصل على موعد من أجل إجراء فحص للعيون، لا بل أكثر من ذلك، قيل لى أن أعود بعد أسبوعَين لاستلام النتائج! سمعت قصصاً مروّعة كثيرة من أصدقائى عن غياب الفاعلية فى هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) التى كانت تُعتبَر قبل وقت غير بعيد الأفضل فى العالم.
ظهرت فضيحة "أجنحة المستشفيات القذرة" قبل بضعة أعوام بعدما ذكر أحد التقارير أن أكثر من 700 مريض يصابون سنوياً بالتهابات فتّاكة عن طريق العدوى بسبب غياب شروط النظافة فى المستشفيات. وثمة اتهامات كثيرة بأن المستشفيات تتبع سياسات التمييز ضد كبار السن فى ما يتعلق بالقيام بإجراءات طبية منقِذة للحياة وتقديم رعاية متخصّصة للمسنين. وبسبب نقص التمويل، سحبت هيئة الخدمات الصحية الوطنية العام الماضى 25 علاجاً للسرطان.
يخضع الأشخاص للتقويم من طبيبهم العام الذى يخصص عشر دقائق على الأكثر لكل مريض قبل إحالته إلى طبيب مختص، وغالباً ما ينتظر المريض أشهراً عدة قبل الحصول على موعد. هناك لوائح انتظار طويلة لإجراء عمليات غير طارئة، وعند استدعاء سيارات الإسعاف فى حال الطوارئ، غالباً ما تستغرق ساعة كاملة للوصول، ما يعرّض حياة الأشخاص المصابين بنوبة قلبية لخطر شديد.
سأعطيكم مثالاً عن واقعة شهدتها عن كثب. أصيب صديق لى بعارض صحى طارئ، فنقلته إلى أقرب مستشفى، وهو مستشفى جامعى ضخم على مسافة غير بعيدة من قريتنا فى الريف الإنجليزى. لدى وصولنا إلى هناك، وجدنا أن قسم الحوادث والطوارئ مغلق. قالوا لنا فى المستشفى إنه بإمكانهم أن يتدبّروا لنا سيارة إسعاف لنقلنا إلى مستشفى آخر، فوافقنا. لكن سيارة الإسعاف استغرقت 30 دقيقة كى تصل إلينا، ثم 45 دقيقة أخرى للوصول إلى الوجهة المقصودة، فضلاً عن فترة الانتظار التى انقضت قبل أن نتمكّن من رؤية اختصاصى فى الرعاية الصحية. كل هذا الوقت الذى انقضى قبل حصول صديقى على العناية اللازمة كان يمكن أن يتسبب بوفاته.
بالعودة إلى الجوانب الأكثر اعتيادية، تأثّرت اتصالاتى المهنية سلباً خلال إقامتى فى بريطانيا بسبب انقطاع الاتصال بشبكة الإنترنت فى منزلى. مجدداً، قيل لى إنه على الانتظار أسبوعاً كاملاً لاستعادة الاتصال بالشبكة. لست متفاجئاً، لأنه فى السابق، كلما احتجت إلى عامل كهرباء أو سمكرى أو نجّار، كانوا يقولون لى دائماً بأنهم سيأتون "الأسبوع المقبل"؛ لا أحد يقول إنه سيأتى فى اليوم نفسه، أو فى الغد، أو حتى خلال الأسبوع الجارى.
وعندما يأتون، يعاينون العطل سريعاً، ويحتسون كوباً من الشاى، ثم يغادرون مع التعهد بالعودة لإتمام العمل. بعضهم يعودون؛ وبعضهم الآخر لا يزعج نفسه بالعودة أو يأتون بعدما أكون قد عدت إلى دبى. يجعلونك تشعر وكأنهم يسدون لك خدمة كبيرة بمجرد قدومهم، ثم يتقاضون أتعاباً خيالية مقابل الوقت الذى خصّصوه لك.
بصراحة، أفكّر ملياً قبل شراء أثاث من المملكة المتحدة هذه الأيام. شحن الأغراض من الإمارات يستغرق وقتاً أقل عملياً. أعجبنى كرسى مؤخراً، وأخطأت بشرائه، فقد أعلمنى المتجر أنه يحتاج إلى ثلاثة أسابيع لتوصيله إلى منزلى. لماذا ثلاثة أسابيع؟ هل المتجر غارق تحت وطأة الطلبات أم أن على عمّال التوصيل حمل الكرسى على أكتافهم؟ لم يتمكّن المساعد من إعطائى تفسيراً منطقياً.
كانت ثقافة الخدمة مختلفة جداً عندما اشتريت منزلى فى المملكة المتحدة قبل عقود؛ لم أتكبّد الأمرّين من أجل ترميمه ليصبح مطابقاً لأعلى المعايير. لست أفهم متى حدث هذا التغيير أو لماذا حدث – وبصورة أدق، لماذا يقبل البريطانيون بهذه الخدمة الرديئة والمعاملة السيئة. على الرغم من أن البريطانيين يتذمرون طوال الوقت، إلا أنهم يميلون عادةً إلى تجنّب المواجهات المفتوحة حتى عندما يكونون على صواب.
ألاحظ ذلك عندما أدعو أصدقاء بريطانيين إلى مطاعم حيث يُقدَّم إليهم طعام ردىء النوعية أو أطباق لم يطلبوها. ففى حين نتذمّر نحن العرب بصوت عالٍ ونعيد الطبق إلى المطبخ، يقولون فى أنفسهم "لا بأس" ويأكلون الطبق. الإنجليز مهذّبون بطبيعتهم، وهذا أمرٌ جيد، لكن ما داموا يمتنعون عن التعبير عن شكواهم المبرّرة، لن يكون لدى المتاجر والمطاعم حافز من أجل تحسين معاييرها.
المساواة الاجتماعية أمر مهم، لكن يبدو لى أن بعض البريطانيين يشعرون بالاستياء من وظائفهم، ولا يفتخرون بالعمل الذى يقومون به أياً يكن. لعل وسائل الإعلام والرغبة فى التشبّه بالمشاهير ساهمت فى زيادة التطلعات غير المنطقية.
لا يستطيع الجميع أن يكونوا محامين بارعين أو لاعبى كرة قدم مشهورين أو فائزين فى برنامج Britain’s Got Talent. لا يستطيع الجميع الفوز بجائزة اليانصيب، وليس ممكناً أن يُتوَّج الجميع نجوماً فى برامج تلفزيون الواقع. لكن إذا لم يسعَ الشخص جاهداً لتقديم أفضل ما عنده لدى الاضطلاع بأدوار أكثر تواضعاً إنما قيّمة بالدرجة نفسها، فلن يصل أبداً إلى القمة.
خلال صباى، شعرت بالفخر لأننى أملك وظيفة، وكنت أعمل بكدّ لساعات طويلة من أجل المساعدة على إعالة أسرتى قبل أن أؤسّس شركتى الخاصة بميزانية صغيرة فى شقّة مؤلفة من غرفتَين وغير مجهّزة بآلة طابعة أو هاتف. لم يكن أمامنا من خيار آخر. لم ننتظر من الدولة أن تؤمّن لنا معيشتنا، ولم نخترع قائمة طويلة من الأعذار للتملص من القيام بهذا العمل أو ذاك.
كان آباؤنا وأجدادنا يجازفون بحياتهم فى الغوص بحثاً عن اللآلئ أو الاعتناء بقطعانهم فى درجات حرارة تتخطى 40 درجة مئوية. كانوا يتمتعون بقوة العزيمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البريطانيين فى تلك الحقبة الذين شمّروا عن سواعدهم وانكبّوا على العمل فى المصانع، وفى جوف الأرض بحثاً عن الفحم، أو حاربوا فى الخنادق وهم مغطّون بالوحول.
ينبغى على هذا الجيل أن يستجمع قواه. وعلى المسئولين أن يفرضوا ممارسات فعّالة ويعلّموا موظفيهم أنه لا يجب التعامل مع العملاء على أنهم أرقام بل أشخاص لكل منهم مقتضياته الخاصة التى تختلف عن الآخر. ومن المنطلق نفسه، على شركات الاستثمار تعيين موظفى خدمة العملاء كى يجيب أشخاص حقيقيون من لحم ودم على المتّصلين بدلاً من الاستماع إلى رسائل مسجّلة أو بدلاً من ربط المتصلين بمركز اتصال فى الجانب الآخر من الكرة الأرضية.
أطلب من القرّاء البريطانيين قبول نصيحتى بصدر رحب والتعامل معها على أنها نقد بنّاء لبلدٍ أعتبره موطنى الثانى. الحياة اليومية شاقّة بما يكفى، فلماذا نزيدها تعقيداً من خلال هذه العراقيل الضاغطة والتى لا حاجة إليها. يجب حدوث تغيير هائل فى السلوكيات، وينبغى التركيز على الممارسات الجيدة، وإلا سوف تصبح كلمة "عظمى" فى اسم بريطانيا مجرد صفة مذكورة فى الأرشيف التاريخى. يسير العالم النامى قدماً. ينبغى على القوى القائمة تعزيز طاقاتها كى لا تجد المملكة المتحدة نفسها متخلّفةً عن ركب الدول الأخرى.