وقف قارئ القرآن الشاب مُتحلّلا من عمامته، يُشارك المحيطين نصيبًا من البهجة بالغناء والرقص والإنشاد. هاج حُماة الفضيلة على مواقع التواصل وأوسعوه نقدًا وتقريعًا وإهانة؛ ولم يشفع له عندهم أنه كان يحتفل بزفاف شقيقه كأول فرحة بعد وفاة والدهما، أو أنه حرّ فى اختياراته كغيره من الناس. قبلها تجمّع الضباع على صور عدة فنانين لأنهم لا يلتزمون أكوادهم المُعتمدة لما يجب أن يكون عليه الملبس، وما يرضى غرورهم بالتحكم فى حياة الآخرين، وتلك حالة مُكرّرة بإيقاع شبه يومى. قد ينظر البعض من زاوية بسيطة مُعتبرين الأمر تلخيصًا لحالة فراغ أو استهلاكًا للوقت والطاقة، وقد يراه آخرون رقابة شعبية مُسليّة، أو دليلاً على رواج المشاهير وتعاظم الاهتمام بهم؛ لكن احتمالاً بين القراءات المُمكنة لا يمكن تجاهله، هو أننا إزاء غزو مُنظّم يُقارب صيغة الترييف التى عانتها المدن قديمًا، وما تزال، ويُحاول فرض وصاية لا تخلو من رجعية وانغلاق على المجال العام.
ما حدث مع ممدوح عامر حلقة ضمن مسلسل، يبدو كأنه يسعى عامدًا إلى المساس بالمراكز المعنوية للبارزين فى كل مجال. يشبه ذلك الهجمات على منشورات دار الإفتاء، وشخص المفتى، اعتراضًا على أنهم يتحدّثون فى اختصاصهم، وبالحدة نفسها التى تطال الأدباء والسياسيين والإعلاميين وغيرهم. تبدأ الموجة كثيرًا من صفحات وحسابات واضحة الانحياز، ثم تتسع بتأثير كرة الثلج واللعب على سيكولوجية الجمهور ومنطق الحشد والتوجيه. إن كان ثمّة منهجية يقودها أفراد أو جهات، سواء أطلّوا برؤوسهم أو استتروا، فإن انخراط العوام فيها يُثير تساؤلات مفصلية عن بواعث استجابتهم للحملات، وعن اتصال ذلك بمواقف طبقية وعُقد اجتماعية واقتصادية وربما شىء من مشاعر الدونيّة، والأخطر انقلاب الصورة لتصبح النخب الطليعية، التى طالما كانت رافعة التنوير وديناميكية المجتمع، فى موقع رد الفعل، مقابل تقدّم القواعد لواجهة الصورة حاملين أفكارهم الأُحادية وثقافاتهم الضيقة. تلك المعادلة تُهدّد لا ببقاء الوضع على حاله فقط، إنما بتعطيل أية محاولة جادة لتطوير الأبنية الاجتماعية والمعرفية ودفع المشهد العام إلى الأمام.
كان الكاتب الإيطالى أمبرتو إيكو قاسيًا فى تعليقه على الظاهرة، إذ اتهم منصّات التواصل الرقمية بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، كانوا يتكلمون فى البارات فقط دون أن يتسبّبوا بأى ضرر للمجتمع ويتم إسكاتهم فورا؛ أما الآن فلهم حق الكلام مثل حاملى جائزة نوبل»، مُلخّصًا الأمر فى تعبيره بالغ الحدّة: «إنه غزو البلهاء».. الآن وبعد ثمانى سنوات على حواره الصحفى الصاخب، قد يكون من الموضوعية أن نُقرّ بأنه لم يكن متجاوزًا تمامًا كما تصوّرنا، ولعل قسوته البادية وقتها كانت واقعية سبّاقة فى قراءة مآلات المشهد. الحقيقة أننا نقف الآن إزاء حالة بلاهة وغطرسة ويقين جاهل تُهيمن على المجال الافتراضى، وتُفجّر ممارسة مفتوحة من التشهير وقمع المختلفين، تحت غطاء سميك من الهجمات الهادرة والتساند بمنطق القطيع.
منحت المنصّات قوّة معنوية لعموم الناس، وهذا ليس سلبيًّا فى ذاته؛ إنما أن يكون الوصول إليه سهلاً مأمونًا ومحدود التكلفة، فإنه يفتح الباب على خروقات كثيفة تُغذيها الحشود، ويُشجّعها قصور الصيغ القانونية عن ضبط العلاقة بين أطراف الاتصال. أصبح التعبير عن أى موقف ميسورًا مهما قهر الآخرين أو نازع الدولة فى تنظيم المجال العام، والبطولة لا تُقابلها أعباء، وإن بإعلان الهوية وقابلية المُساءلة. تلك الوضعية تجعل البارزين أهدافًا مُتاحة قليلة الحيلة؛ فتختل المعادلة، إذ إن المحدودية والفردانية لا تسمح لهم إلا بتلقّى الضربات دون رد، والوفرة لدى الطرف الآخر ترفع منسوب الطمأنينة وتُشجّع التجرؤ وتجتذب مزيدًا من المشاركين. لا يمكن وصف الصورة وفق توازناتها الحالية إلا باعتبارها سياقًا غوغائيًّا يسمح بمُمارسة التوحُّش دون ردع، بينما يعود كل واحد فى الواقع إلى طبيعته، لدرجة أنه قد يسعى للتقرّب والتقاط الصور مع الشخصية العامة حال التقاها عَرضًا. هكذا قد تبدو المشكلة فى الوسيط، وما يُوفّره من فرص عريضة للخشونة والاستعراض؛ رغبة فى التعبير عن الوجود، أو بحثًا عن بطولات مجانية وشعور بالفاعلية والأثر.
ليست المسألة عن حق النقد، ولا مستواه المقبول، ولا التزام ذوى الوضعية العامة بحُسن استقباله. أغلب الممارسات تتجاوز المسموح لغةً وموضوعية، إلى نطاق يقع تحت طائلة القانون، عبر عنف لفظى واتهامات مجانية وتمايز أخلاقى وربما سب وقذف وتحقير، والخط مُمتد فى كل تفاصيل الحياة وحركة المشاهير فى مجالهم الحيوى، لكنه يتشنج أكثر أمام أى تحرُّر أو تسامح أو قبول للآخر، ولا استثناء إلا لو أعلن أحدهم عن موقف شعبوى أو سلوك يوافق منظومة القيم المحافظة؛ كأن المقصود باستهدافهم ما يُمثلونه من أفكار وممارسات وصيغ تعايش، والمُراد تسييج الانفتاح بجدارٍ حارق من الترهيب. يضيق حرّاس «السوشيال ميديا» بالتنوّع، ولا يُحبّون التعبير عنه، ويرتاحون وسط حواضنهم ومع من يشبهونهم، ثم داخل تلك الراحة الأولية يتمايزون ويسعى كل فريق فيهم لأن يكون ذكر القطيع؛ حتى أنهم قد يشتبكون معًا فى داعية أو لاعب أو فستان أو رأى فقهى؛ فيُمارسون العنف والإقصاء تجاه بعضهم. إنها حالة ترييف كاملة، يعيش كل فرد فيها داخل فقاعة مُغلقة، ولا يستوعب أن وراء شاشته عالمًا فسيحًا يسع الجميع بالتساوى، ويحترم الاختلاف ويتقوّى به، وبالقطع يستحيل تأطيره أو صبّه فى قوالب جامدة.
المشترك فى تجلّيات العنف الافتراضى، أن ضحاياه ذائعو الصيت ويتصدّرون مجالاتهم، بينما ممارسوه يتوزّعون عرضيًّا ورأسيًّا، فمنهم فقراء وموسرون، مهنيّون وحرفيون، نساء ورجال، عاملات وربّات بيوت.. قد يعكس الأمر شرخًا أحدثته زلازل اجتماعية وسياسية ضربت المجتمع منذ السبعينيات، أو ينبع عن ثقافة الزحام بما تفرضه من ضيق وضوضاء وتآكل للخصوصية والمساحات الآمنة؛ لكن لعلّه لا يخلو أيضًا من إحنٍ وطاقة سلبية مبعثها شعور بعدم التحقق.
الإتاحة المُفرطة سمحت للجميع بإبداء الرأى فى كل شىء، ومع وفرة الجمهور وسداد «أجر العازف» بالاستحسان والترويج، يتعمّق إيمان الكائن الافتراضى بنفسه وثقته فى رؤاه ومواقفه. هكذا تتحوّل الهواجس التى كانت حبيسة الصدور، أو يُسَرّ بها خجلاً للمُحيطين وجُلساء المقهى، إلى مرجعية حاكمة و»مازورة أخلاقية» يُقاس عليها المختلفون، ويتعرّضون لعقاب معنوى شرس إن تجاوزوها، ومع كل رواج لواحد منهم، يتشجّع آخر وتترسّخ دعائم خط الإنتاج.. وبالحط من قيمة أحد اللامعين، يمكن أن يتحقّق التعويض النفسى؛ إما بتلبُّس السردية المُصطنعة عن دونية الناجح وانعدام أفضليّته، أو بالطعن فى المنظومة التى سمحت له بالصعود؛ ومن ثم فإن الإخفاق فى التجاوب معها قد يُعبّر عن رقى لا فشل. هكذا يتشافى هؤلاء من جروحهم النفسية بالتجبّر أو التسليم للوهم.
ليس مطلوبًا بالتأكيد أن يكون كل سُكان «الاجتماعية الافتراضية» علماء أو خبراء وأهل تخصُّص، وليس مطلوبًا أن يصمتوا أو يتوقّفوا عن إبداء آرائهم، لكن إن كانوا عاجزين عن الانخراط المنضبط ضمن سياق تواصل «بعد حداثى» بالكلية؛ فقد يكون من مصلحتهم أن تتدخل المؤسَّسات ويلعب القانون دورًا أكبر. قد يصعب إقناعهم بأن البيئة الرقمية تنبع من سياق ثقافى ومعرفى يتصادم تمامًا مع الانغلاق، ويرفض الوصاية والقضايا الكبرى، ولا يترك البشر موضوعًا للقهر؛ لكن بقدر من النصوص الجادة والعقوبات الرادعة والتفعيل السريع قد يُصبح الإقناع فعّالا وأكثر يسرًا. نشأت المنصّات من رحم تفكُّك المركزيات، وحرّرت علاقة الاتصال من بنيتها التقليدية، سعيًا إلى حيوية يتساوى فيها الجميع دون حاكمية أو إقصاء. ما تُمارسه جحافل الرجعية لا يناسب الوسيلة، ولن يُقوّضها أو يُغيّر طبيعتها، إنما يُعبّر عن غلوّ كامنٍ، وعلوّ لمنسوب الرجعية بين قطاعات متفاوتة فى مرجعياتها ودرجاتها على سُلّم الاجتماع. يتطلّب الأمر جهدًا مُؤسَّسيًّا فى التربية والتثقيف، وتوسُّعًا فى إتاحة الفنون، وتطبيع علاقة المواطن بشركائه فى المجتمع على تنوّعهم وتعدُّد مستوياتهم. ما يحدث على «السوشيال ميديا» قد يُشير إلى حاجة مُلحّة للتحرُّك على أرض الواقع.
استحلال الذبح المعنوى فى المساحة الافتراضية، يرتكز إلى اتهام مبدئى بأن المجنى عليهم استهدفوا الإثارة طمعًا فى البقاء تحت الضوء. المفارقة أن الخارجين عليهم يقعون فى التهمة نفسها، ومن حيث يتصورون أنهم فاعلون إيجابيون هم فى الحقيقة مفعول بهم سلبيًّا؛ إما لأنهم مدفوعون فى إطار قصدٍ مُخطّط سلفًا، أو ساعون لاستثمار الجدل من أجل الذيوع أيضًا. تُعبر حمّى الاشتباك مع كل القضايا الرائجة عن رغبة مُضمرة فى الظهور، قد تُبادر أحيانا عبر لعب دور «مُنشئ الرسالة» بترويج شائعة أو نشر خبر أو بث مادة بصرية، وكثيرًا ما تتراجع إلى حيّز التفاعل المحموم مع رسائل الآخرين. باختصار، لا تعدو المعركة الافتراضية سباقًا على الاهتمام، أو تقاسمه، أو النفاذ منه لمساحة رواج أوسع. تبدو تلك النماذج عاجزة عن التنافس الشريف، وبدلاً من طرح رؤاها فى صيغٍ مُتماسكة وجذّابة، تستعيض بتكسير أطروحات الآخرين. تلك إشارة أخرى إلى واحدة من علامات الترييف، جوهرها استبعاد الآخر لا تقديم الذات، والانغلاق لا الانفتاح، والرفض الكامل بديلاً للحوار المثمر، وعلى مُخاصمة قيم الحداثة بما فيها من اتساع وقبول ونسبية، لصالح التترّس داخل دوائر انتماء أوّلية تكتسب قيمتها لديهم من عجزهم عن تجربة نطاقات أوسع.
ليس بعيدًا من ذلك أن أغلب المواقف ترتكز لمداخل اعتقادية. المحافظة والنزعة الأخلاقية أهم ما يُغلّف ظاهرة الترييف؛ حتى لو انحرفت الممارسة العملية عنهما فى كثير أو قليل. ما يغيب عن كتائب الردع المعنوى، أفرادًا كانوا أو لجانًا مُنظّمة، أن الواقعين فى نطاق استهدافهم يُمارسون طقوسهم اليومية الطبيعية، لا يستعيرونها ولا ينتحلون هيئات غريبة، وبالتبعية فليس واردًا أن يتخلّوا عن حياتهم أو يُعيدوا برمجة ظهورهم بما يتوافق مع الرقابة القمعيّة الهشّة. فى المقابل، قد يقع المحافظون فى تناقض قاسٍ بين واقعهم المعيش وقيود شخصياتهم الافتراضية، ومع كل ثبات لحالهم ونجاح أو تقدُّم لخصومهم؛ ستتعمّق الأزمة ويشتد الضغط النفسى. فى الأخير لن تنتصر موجة الترييف على سياق اتصال هادر وبالغ الاتساع. قد لا يعنى ذلك سقوط خطابهم تمامًا؛ لكن اعتياد نمط التأجيج ثم الخفوت سيُسقط قيمته وتأثيره الرادع معنويًّا، بالضبط كما سقطت كل خطابات الرجعية أمام تقدّم الفن والثقافة والاجتماع والقانون وغيرها من مكوّنات المدنية الحديثة، حتى لو تدحرجت حينًا مثل كرة الثلج فتضخّم حجمها؛ فإنها لا تصمد فى النهاية أمام تفاعلات الواقع وشمسه الساخنة. سيظل الريفيّون الحقيقيون طيبين وفاعلين ومُؤثّرين بقدر حوارهم المُثمر مع الزرع والطين؛ لكن الريفيين الافتراضيين قد ينتهى أمرهم إلى التقاعد المحبط، بعدما يفرض الزمن شروطه، وتُطيح التقنية بمن حاولوا ترويضها لعكس ما اختارت لنفسها من أدوار، مفتاحها التفاعل الحى، وغايتها القبول المُتبادل والتعايش رغم التناقضات.