تبدو الأزمة السودانية الحالية، بمثابة تكرار لما كانت عليه الأوضاع في العقد الماضي في العديد من الدول العربية، في ظل ما شهدته من فوضى، وضعت بعضها على حافة الانهيار، بينما سقط البعض الآخر في مستنقع الحروب الأهلية، لتتحول بعد ذلك إلى ساحة لصراع القوى الدولية والإقليمية، على غرار سوريا واليمن وليبيا وغيرهم، وهي الدول التي مازالت حتى اللحظة الراهنة تعاني جراء التداعيات المترتبة على تلك الأوضاع، وهو ما يبدو على سبيل المثال في النموذج السوري، والذي عاد لتوه إلى أحضان الجامعة العربية، بعد سنوات من التجميد، لتكون الخطوة مجرد بداية، وليست النهاية، لحل الأزمات التي لاحقت تلك البقعة الجغرافية الهامة، سواء في منطقتها العربية أو في الإقليم بأسره.
إلا أنه ثمة اختلافات جوهرية بين الأزمة السودانية الحالية، في ظل مستجداتها الأخيرة، والأوضاع إبان ثورة "الربيع العربي"، في ضوء تأخرها نسبيا، حيث جاءت في "ربيع" خافت نسبيا، تراجعت فيه الأزمات إلى حد ما، بعد أكثر من عقد كامل من المآسي التي شهدتها الدول سالفة الذكر، بينما شهدت الظروف الإقليمية تغييرات كبيرة، سواء من حيث الخبرات الكبيرة في التعامل مع هذه الأزمات، جراء التجارب السابقة، ناهيك عن البيئة الإقليمية التي باتت مهيأة لمزيد من التوافقات، والتي تنطلق من حزمة "مصالحات" هيمنت على المشهد في الأشهر الماضية، ربما تخفف إلى حد كبير من حدة المنافسة بين القوى الإقليمية، والتي لعبت الدور الأكبر في تأجيج الصراعات السابقة، والتي مازالت تداعياتها قائمة حتى الآن.
ولعل المتأمل للمشهد العربي، في المرحلة الراهنة، يرى بوضوح أن التحرك كان سريعا، سواء من جانب الدول الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها مصر، والتي تنظر إلى التطورات السودانية باهتمام بالغ، بحكم عوامل الأمن القومي والجوار، ناهيك عن الوضع الإنساني، أو على المستوى الجمعي، عبر الجامعة العربية، والتي عقدت اجتماعات استثنائية منذ اليوم الأول، للاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، بناء على طلب من مصر، والمملكة العربية السعودية، بل والدعوة لاجتماعات أخرى طارئة، على مستوى وزراء الصحة والشؤون الاجتماعية، بدعوة من الأمين العام أحمد أبو الغيط، وذلك لبحث الأزمة بصورة أكثر شمولا، وهو الأمر الذي يمثل أحد المستجدات الإيجابية في التعامل مع الأزمات، والتي تمثل نتيجة مباشرة لتراكم خبرات السنوات الماضية، والعمل الجاد على تلافي كافة أوجه القصور التي تخللتها، بالإضافة إلى التنسيق بين المسبوق بين المنظمات الإقليمية والدولية، وخاصة الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة، وهو ما يمثل أحد المستجدات المهمة في التعامل مع الأزمة.
التطور الكبير في التعامل مع الأزمة امتد إلى تعامل الدول، وفي القلب منها دول الجوار، مع المستجدات في السودان، وهو ما يبدو واضحا في عمليات الإجلاء، والتي شهدت تعاونا غير مسبوقا، في ظل النجاح الكبير الذي حققته عدة قوى إقليمية، في إجلاء رعاياها ورعايا بعض الدول الأجنبية، تمهيدا لإعادتهم إلى أوطانهم، ناهيك عن التعامل السلس مع اللاجئين، بعيدا عن تعقيدات المشهد في الماضي القريب.
ولكن يبقى الجانب الأهم، والذي يميز الأزمة السودانية، متجسدا في قدرة البيئة الإقليمية، وفي القلب منها العربية، على صياغة استراتيجية من شأنها وضع قواعد يمكن من خلالها العمل، على إنهاء الأزمة، ربما لخصتها كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال كلمته أمام قمة مجلس السلم والأمن الإفريقي، والتي اعتمدت مسارات محددة، أولها وقف شامل ومستدام لإطلاق النار، والثاني الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية، بينما التأكيد، في المسار الثالث، على دور الأطراف الإقليمية، والذي ينبغي أن يقوم على المساعدة دون تدخل في الشؤون الداخلية.
وعلى الرغم من أن حديث الرئيس السيسي كان يخص الوضع في السودان تحديدا، إلا أنه في واقع الأمر يمثل إرساءً لمنظومة القيم التي ينبغي أن يعتمدها الإقليم في التعامل مع الصراعات، حال نشوبها، في إطار إعادة هيكلة ما يسمى بدبلوماسية "صنع السلام"، والتي تهدف في الأساس إلى إنهاء الصراع بعد نشوبه، عبر الوساطة والتفاوض، دون تدخل خارجي، حيث يبقى دور القوى الإقليمية قاصرا على الوساطة لتحقيق المصالحة بين الخصوم والتوافق حول القضايا الخلافية، دون انحياز لطرف على حساب الآخر، لصالح عوامل التأثير والنفوذ.
الرؤية المصرية لدبلوماسية "صنع السلام" ربما تتواكب إلى حد كبير مع ظروف إقليمية تميل نحو تحقيق التوافق، تزامنا مع "خفوت" الربيع الثائر، بينما تعكس متطلبات مرحلة تبدو في غاية الدقة، جراء الأزمات المتواترة، جراء الأوضاع العالمية الراهنة، وتداعياتها على شعوب المنطقة، وهو ما يستدعي ضرورة التخفيف من حدة الأزمات الإقليمية وتوسيع نطاق التعاون نحو منطقة أكثر استقرارا حتى يمكنها مجابهة التحديات القادمة من الخارج، والتي تمثل تهديدا كبيرا ليس فقط لمناطقنا الجغرافية وإنما للعديد من مناطق العالم الأخرى.
وهنا يمكننا القول بأن ثمة تغييرات كبيرة في المشهد الإقليمي، ربما تؤهل إلى حد كبير إلى تغيير النهج الجمعي في التعامل مع الصراعات التي قد تنشب في منطقة الشرق الأوسط، عبر التعاون بين القوى الرئيسية، لخدمة الأوضاع الإنسانية من جانب، والتنسيق بين المنظمات الدولية والإقليمية، بينما يبقى "عدم التدخل" بمثابة المبدأ للحاكم للتعامل مع الأزمة من قبل الدول الأخرى، والتي يقتصر دورها على الوساطة النزيهة لتحقيق التوافق بين الأطراف المتصارعة، دون انحياز لطرف بعينه لتحقيق المصالح الضيقة، بعيدا عن المصلحة العامة، سواء لدولة الصراع أو المنطقة بأسرها.