إن كانت مُدوّنة مصر الحديثة قد كُتبت بألبانيّة محمد على باشا؛ فإن حقبتها الناصعة سطّرها أبناء الفلاحين بلسان مصرى خالص. منذ حركة عرابى الساعية إلى تمكين أصحاب البلد الأصليين من حقوقهم، وصولاً إلى «وفد سعد» الذى انتزع الدستور وأحرز الاستقلال نظريًّا، ومن بعدهم فورة ثورية عسكرية رسّخته أمرًا واقعًا، وترافقت مع كل ذلك نهضة معرفية رسمت معالم مرحلة تقودها النخب الوطنية الصافية. من وقتها لم تتأخّر الطليعة المصرية عن أدوار التنوير والقيادة، وبرهنت فى كل الاختبارات على جدارتها بتقدّم الصفوف، وصيانة الإرث، وتقديم أجوبة مُقنعة ومسارات صالحة للعبور؛ مهما بدا السياق صعبًا والأزمات مُتشابكة. تلك الفاعلية التى امتدت فى وعى المصريين لأكثر من قرن، وعبرت به ومعه امتحانات قاسية ومنعطفات حادة، يبدو أنها اهتزّت عما كانت عليه، وتضرّرت بدرجة واضحة خلال العقد الأخير.
لا تنحصر النخبة فى أرباب السياسة؛ لكنهم طالما كانوا قلبها ومُمسكى قيادها. كان التشابك عميقًا بين السياسيين وأهل الفن والثقافة والمال، حتى أن الحدود سقطت كثيرًا بين الحقول المتجاورة، ومارس المبدعون التحزُّب أو تولّوا مناصب سياسية وتنفيذية، وأنتج الحزبيّون فى الفن والأدب والعلوم الاجتماعية، وجميعهم كانت لهم مواقف واضحة، إن مع السلطة أو ضدها. وفق هذا التداخل والطبيعة العامة الصابغة للقضايا الوطنية، يمكن إجمال الحديث عن النخبة ومواقفها فى طبقة السياسة، لا سيّما أنها رافعة بقية المكوّنات وفاعلة فى وضعها، بالازدهار أو الانزواء، كما يسهل تتبُّع سياق ناظمٍ لحركتها فى المدى الطويل من الاحتلال الإنجليزى، إلى ثورة يوليو، ثم تحوّلات الانفتاح والسلام الحادة حتى أجواء يناير المُلتهبة.. بالتأكيد لم تكن المواقف واحدة، ولا الانحيازات متطابقة؛ لكن ظلّت هناك قنوات مفتوحة مع الشارع وفاعلية واضحة بين القواعد، وثراء يُغلّف علاقتها ببعضها وبالدولة، والأهم أن جسد النخبة كان مكتمل المعالم ويسهل تشريح أعضائه ومعرفة مواقعها منه. فى الوقت الراهن لا يبدو أن هناك جسدًا أو روحًا، ولا يتيسّر التماس أثر لها فى الناس أو فعل فى أروقة الدولة، وإن كان ثمّة أمور عديدة يُعزى إليها الانحسار، فإن بعضًا منها على الأقل يقع ضمن مسؤولية النخب نفسها، إذ يُمكن أن تتحكّم الأوضاع العامة فى ازدهارها، لكن بقاءها قرار ينبع من إرادة شخصية.
إن تعلّل فريقٌ بضيق المجال العام، فالردّ أن ازدهار النخبة الوطنية وعصرها الذهبى كان فى أشدِّ مراحلنا التاريخية قسوة، وإن حاولوا إلصاق المسؤولية بالعوام وأحوالهم، فإن فقراء مصر ومُعدميها هم من وضعوا «باشوات الوفد» فى سِدّة الحكم، ولم يكونوا مُتحاملين أو جلادين قُساة على طلائعهم قَطّ. تورّطت النخب كثيرًا فى سقطات غفرها الناس من دون لومٍ أو محاسبة: عندما عاد «النحاس» للحكومة على دبابات الإنجليز فى فبراير 1942، وتلاسن مكرم عبيد مع أصدقاء الأمس وموقفهم منه، وتحالف الليبراليين والاشتراكيين مع الإخوان فى انتخابات 1984 و1987، وعلاقة الجمعية الوطنية للتغيير بالتنظيم، وانشقاقات التجمُّع والناصريين، وانتفاع أباطرة العمل الحقوقى ماديًّا ومعنويًّا، وكثير من الارتباك وسيولة القيم، ومن شخصنة ومواقف استعراضية سعت إلى مُساومة أو مصلحة. تجاوزت القواعد الشعبية عن تلك الأمور وغيرها، ومن ثمّ لا وجه للهروب من المسؤولية باختصام الدولة أو إدانة الجمهور؛ وربما يكون السبب استنفاد طاقة الغفران، أو مغادرة الملعب فى توقيت خاطئ. النخبة لا تلعب بمفردها أو لصالحها فقط، والناس قُضاة على اللعب وليسوا مُجرّد مُشجّعين منزوعى الإرادة. فهل موقف العامة الحالى من النخب، أو ما بقى صالحًا منها، زُهد عابر أم بطاقة حمراء؟
بعد يناير 2011 غابت الطليعة الثقافية وسط معركة مُحتدمة على الهوية، ومُحاولات لاختطاف البلد وتديين مجاله العام، وانزلق رموز السياسة وتيّاراتهم فى شجارات بينية وخصومات وضعت الأيديولوجيا فوق الدولة والمجتمع. كان صادمًا أن يشقّ الإخوان طريقهم نحو الهيمنة على البرلمان بغطاء من بعض الليبراليين والقوميين، ممّن أطلقوا الرصاص على أنفسهم بمُشايعة جماعة رجعيّة والتوقيع بالموثوقية لحزبها الكرتونى، بينما لم يكن أكثر من واجهة هيكلية لإنتاج سياق رعوى، تغيب فيه الوطنية وراء لافتة الأممية وأوهام أستاذية العالم، ثم استفحل المرض وازدادت الصورة قتامة بالقطيعة الكاملة مع العقل والمنطق، وقتما وقفت وجوه لامعة من كل الاتجاهات خلف محمد مرسى فى «مؤتمر فيرمونت»، مُقدّمين خدمة مجانية لغسل السُمعة وتمرير أجندة الهيمنة، وقصّ شريط مشروع الوصاية الإخوانية على الوطن.
لاحقًا، حاول الجميع الاعتذار، وربما كانت توبة البعض صادقة بينما استمرأ آخرون الإيغال فى التحالف المشبوه؛ لكن الحالة بكاملها كانت إعلانًا قاسيًا عن سقوط قطاعات واسعة من النخبة، حينما عجزت عن قراءة الظرف السياسى والوطنى بوعى وموضوعية، واتخاذ مواقف مُخلصة لقناعاتها العميقة، وعدم التورُّط فى «شهادة زور» كان يُحتمل أن تُفضى إلى تحلُّل العقد الاجتماعى، وتهاوى ركائز الدولة الصلبة فى ضياعٍ عارم. لم يكن المشهد خيانةً بالمعنى المُباشر والقراءة القاسية؛ إنما كان تعبيرًا عن محنة حقيقية لدى وجهاء السياسة، ورخاوة فى الأفكار والمواقف، وشرخ عميق مع الشارع، قد لا يتيسّر ترميمه إلا بمراجعة جادة وتأسيس جديد ووجوه مُغايرة تمامًا.
حينما حاولت الجماعة تأميم الثقافة لصالحها، واختارت وزيرًا مجهولاً لا يُعرف له أثر إبداعى أو أكاديمى، بادر فريق من طابورهم الخامس بين المثقفين إلى تدبيج بيان تأييد. وقتها انتفض أهل الفكر والفن الحقيقيون باعتصام حاشد فى مقر الوزارة بالزمالك، ونجحوا فى إفشال المُخطّط الذى أُريد منه شقّ طريق مشبوه نحو اللعب بالعقل والهوية. كانت الحالة موقفًا مضيئًا وسط مسلسل من إخفاقات النخب أمام لحظة اختبار وجودية، لكن التحرك الفئوى لم يُشكّل موجة كاملة على أرضية وطنية جامعة، فعجز الاستثناء المُتحقّق فيه عن شطب القاعدة التى رسخها سياسيّو الميادين والفضائيات والفنادق والغُرف المغلقة، وظهيرهم من المُنظّرين المُعقّمين عن غبار الحوارى وشواغل أهلها. بامتداد الخطّ على اعوجاجه الفاضح، كان طبيعيًّا ألا يأتى الخلاص العام من صفوف النخبة؛ إنما اضطلع به شباب عاديّون عبر دعوة «تمرد»، وكان احتضان الشارع للحركة المُنبثقة من حماس ناشئين فقدوا الثقة فى رموزها، إيذانًا بانفصال القاعدة العريضة عن دوائر النخبة، أو بحثها عن نُخبٍ جديدة تستشعر حجم المخاطر المُحدقة بمقومات الدولة، وتستجيب لها بجدية لا تشوبها مواءمة أو تحفُّظ أرعن أو إمساك بالعصا من خاصرتها. بقدر ما كانت اللحظة تجسيدًا لاصطفافٍ وطنى حاشد ونادر؛ فإنها عبّرت عن استنفاد حصة غالبة من الرموز القديمة لغرض الوجود، وأسباب القدرة على البقاء.
طُعن المجتمع فى طليعته التى طالما نظر إليها كمخزن للقيم وضامن لتوازنات القوى. من دون تزيّد أو تبسيط، كانت الاستثناءات التى يُعوّل عليها قليلةً ومحدودة الأثر، ومن ناحية الغلبة وحصيلة المواقف البارزة يمكن القول إن النخبة، فى وجهها الأوسع، خذلت قواعدها فى كل التجارب والمحكّات. بدا ذلك واضحًا فى انصراف شبه كامل عن الأحزاب، قديمها وجديدها، حتى التى حقّقت حضورًا مُلفتًا فى مرحلة المدّ الثورى والسياسى، كما بدا فى تراجع الدعم والاحتفاء بوجوهها البارزة فى الواقع، أو الميديا التقليدية وعلى المنصّات الرقمية، وكانت ذروته مع نسب تصويت مُتدنيّة لصالحهم فى الاستحقاقات التالية: رئاسية 2014 وبرلمان 2015. إلى تلك المحطة الفارقة ظلّت النخبة القديمة عاجزة عن قراءة المشهد، ولم تتوفر على حصافة كافية لاستيعاب الرسائل المُضمرة فى حالة الانفضاض الشعبى؛ بل إنها حاولت البحث عن شمّاعات تُعلّق عليها ما أصابته من إخفاق، وما حاق بها من ذبولٍ وانطفاء؛ حتى تلك الحجة لم يكن ميسورًا أن تصمد طويلاً، بعدما استبدّت بأغلبها شقاقات داخلية شخصانية وتسابق على الزعامة والمصالح، تجلّت بأوضح صورها فى التخبُّط وغياب الاستقرار، ونزوح الكوادر والمؤسِّسين بهدوء أحيانًا، وبتلاسن واتهامات فى عديد الحالات.
لا مصلحة لأحد فى تحلُّل النخب الوطنية أو فقدان مراكزها المعنوية، والدولة أكبر المستفيدين من إعادة ترميم الواجهة الطليعية لمجتمعٍ، يتّسع إلى درجة العجز عن مخاطبته من منصّة واحدة. ربما يكون «الحوار الوطنى» فرصة جادة لبناء قناة اتصال جديدة، وابتكار لغة صالحة بين السياسة والشارع، وعلى المؤهّلين من الرموز التقدُّم لملء المساحة، شريطة استيعاب دروس الماضى والتخلّى عن النظر للشارع باعتباره خزّان تصويت، أو «طوابير هتّيفة» يُحقّقون رواجًا زهيد التكلفة. الحزبيّة صيغة مدنية هدفها السلطة، وتلك حدود علاقتها المباشرة بالدولة، لكن مع النزول بالخطاب لا يجب أن يشعر الناس أنهم وسيلة لا غاية، وأن من يخطب ودّهم يضع هدفه فوق مصالحهم، طالبًا رضاهم المؤقّت وجاهزًا للتضحية بإرضائهم مُستقبلاً. ما تورّطت فيه اصطفافات النخبة لأكثر من عقدٍ، فضلاً عن خيانة أفكارها أو التقصير فى ترجمتها لمُمارسات حقيقية، أنها تعالت على جماهيرها ولم تحترم فطنتهم، فاستشعروا أنها غريم فى الساحة يلعب ضدهم، أو يتلاعب بهم، وليس مُمثّلاً عنهم فى مباراة لن يتحمّسوا لطرف فيها؛ إلا إذا تأكدوا أنهم لو لم يخرجوا معه رابحين، فعلى الأقل لن يُحمّلهم مسؤولية الهزيمة، ولن يحرمهم لُطف المواساة.
البداية من المراجعة والاعتراف. مُحاسبة الذات فضيلة تليق بالنخب، ومسؤولية لا مفرّ منها لتشخيص العلّة وبدء العلاج. إذا كان العوام يستمدّون الأمل من طلائعهم، فإن إلقاء عباءة المظلومية ضرورة حتى تعود العلاقة لطبيعتها، وتستعيد القواعد ثقتها فى الرموز. لا بديل عن نفض التعالى لغةً وممارسة، وربما يكون فى الانغلاق والهروب وتفويت الفرص استعلاء ضمنىّ على القواعد أو الظرف والتزامات الدور. من الواجب أيضًا الرجوع إلى تراث النخبة، وإعادة تحرير الأدبيات التى أفضت لحالة التشوّش والارتباك، والفكاك من قيود الأيديولوجيا لصالح براجماتية ناضجة تُوفّق بين ركائزها العميقة ومقتضيات المرحلة وما يريده الناس من رموزهم، وأن تتقدّم قيم الحداثة والتنوير على اعتبارات المزايدة أو نفاق التيّارات الرجعية، والأهم استيعاب أن فاعلية النخبة تنبع من تكامل أدوارها، ولن يتقدّم قطارها إن تباعد القضيبان أو تأخر أحدهما. لم يعد الجمهور فى مقاعد المُتفرّجين، بل تقدّم عبر وسائط الاتصال الجديدة ليلعب أدوارًا كانت تقع فى صُلب النخبويّة، وذلك تحدٍّ أعمق يخص القدرة على استيعاب الرسائل وتنظيم انفلاتها والتعويض عنها ببدائل مُقنعة. ما لم يستشعر كل فرد أن فى الواجهة من يُعبّر عنه مثلما يريد أو أفضل، فقد تظلّ الرموز كما هى الآن، مواقع مُتقدّمة من دون فعلٍ أو أثر. تواجه النخب الوطنية عامةً، والسياسية بالأخص، أزمة حقيقية لا يمكن إنكارها، والحل مرهون بأن تُعيد إنتاج مواقعها ضمن بنية العلاقات التى تشكّلت خلال كُمونها، وأن تقتنع أوّلاً بأنها لم تعد فاعلاً حقيقيًّا، وتتحمّل جانبًا من وِزر الغياب، وعليها أن تكون شجاعةً وقادرة على سداد تكلفة الحضور من جديد.