خطوات عدة اتخذتها الدولة المصرية في السنوات الأخيرة لتعزيز مبدأ المواطنة، والذي يقوم في الأساس على تحقيق المساواة الكاملة بين كافة أبناء الوطن الواحد، سواء في الحقوق أو الواجبات، وهو ما لا يبدو أمرًا جديدًا، حيث يبقى منصوصا عليه في الدستور المصري منذ عام 2007، ولكنه ظل محددًا بأبعاد بعينها، كالدين وربما الجنس، ليتحول، في عهد "الجمهورية الجديدة"، من مجرد شعار محدود من حيث آليات التطبيق، إلى استراتيجية مرتبطة بالتنمية، باعتبارها حق أصيل للمواطن كشريك رئيسي في تحقيق أهداف الدولة المصرية، عبر الانطلاق به من الأفق الضيق، إلى آفاق أكثر اتساعًا، عبر تعزيز دوره في إطار واجباته تجاه وطنه
ولعل الأبعاد الجديدة التي بات ينطوي عليها مبدأ "المواطنة"، والتي ارتكزت على الجانب التنموي، والمجتمعي، والاقتصادي، والجغرافي، وغيرها، تنطلق في الأساس من ارتباطها بمفهوم الشراكة، والتي امتدت من علاقة المواطن بصورته الفردية، مع الدولة، إلى صورة أكثر جماعية، بدءً من الأسرة الصغيرة، والتي استفادت من العديد من المبادرات، وعلى رأسها مشروع "حياة كريمة"، ومنها إلى الفئات المجتمعية الاوسع نطاقا، على غرار منظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي، وحتى المحافظات، فيما يمكننا تسميته بـ"المواطنة الجغرافية"، والتي ارتكزت على خلق فرص تنموية متساوية في أقاليم مصر، خاصة تلك التي عانت قدرًا كبيرًا من التهميش لعقود طويلة من الزمن.
والحديث عن "المواطنة الجغرافية"، تحمل في طياتها مسارات متعددة، منها علاقة الدولة بالمواطن، في إطار تعزيز أحد أركان مبدأ "المواطنة" وهو "الحقوق"، عبر تدشين العديد من المشروعات العملاقة، التي من شأنها خلق فرص تنموية على الأرض، يمكنها مساعدة مواطني مواطني تلك المناطق على العمل، لتحسين حياتهم، وانتشالهم من البطالة، وتخفيف نطاق الهجرة المتزايدة إلى العاصمة، وبالتالي الاحتفاظ بالترابط الأسري، بعيدًا عن التفكك الذي ساد العديد من العائلات، جراء البحث عن فرص عمل، ناهيك عن استغلال كافة الامكانات المتاحة، باختلاف الموارد التي تمتلكها الأقاليم الجغرافية، التي من شأنها تحقيق التنمية، بدلًا من ارتكازها على مناطق ضيقة، وهو ما يساهم في تحقيق حالة من التكامل بين كافة المحافظات من الأسكندرية إلى أسوان، وبالتالي إنجاز أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي، وتمهيدا لزيادة الانتاج والانطلاق نحو التصدير، في حقبة تعاني فيها كافة دول العالم من أزمات متواترة.
المسار الاخر المرتبط بـ"المواطنة الجغرافية"، يتجسد بوضوح في دور المواطن تجاه الدولة، وهو ما يمثل الركن الاخر من المبدأ وهو "الواجبات" ليس كمجرد "ترس"، يعمل لخدمة المشروعات التي تقدمها الدولة، وإنما ليصبح عنصرًا فاعلًا، يمكنه تقديم أفكاره ومشروعاته، التي تحظى بالبحث والدراسة، من قبل المسؤولين، وبالتالي إمكانية تطبيقها، في إطار سياسة تشجيع الاستثمار، في نطاق مزدوج، يعتمد المفهوم التقليدي للاستثمار، عبر تعزيز المشروعات التي من شأنها تحقيق التنمية، من جانب، بالإضافة إلى تحقيق بعدا آخر يقوم على الاستثمار في الأفكار التي يمكن أن يقدمها المبدعون، لحل أزمات تؤرق محافظاتهم أو المدن والقرى التي يقطنونها.
فلو نظرنا إلى المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء الذكية، نجد أنه يمثل نموذجًا فريدًا لمفهوم "المواطنة الجغرافية"، في إطار المسار الثاني، والذي يقوم على دور المواطن تجاه دولته، عبر إشراك مواطني كافة محافظات الجمهورية، على نحو عادل ومتساوٍ، دون تمييز لمنطقة على حساب الأخرى، في تقديم مشروعات من شأنها تقديم حلول للأزمات المحدقة بالمجتمعات في مختلف الأقاليم الجغرافية، شريطة الالتزام بمعايير التنمية المستدامة، والبيئة، بالإضافة إلى تخصيص جانب للمرأة، لتشجيعها على الانغماس في العملية التنموية، ناهيك عن تشجيع الاستثمار المحلي في صورته التقليدية، وكذلك تعزيز الجانب الفكري، عبر الانتقال بتلك المشروعات من مرحلة الافكار، ذات التطبيق المحدود نحو التوسع، عبر تقديم الدعم والتدريب للقائمين عليها.
النهج الذي تتبناه مصر يمثل نموذجًا مهمًا لـ"المواطنة" بمختلف أبعادها، سواء حق المواطن في التنمية، أو واجبه كشريك فيها، بالإضافة إلى مراعاة البعد الجغرافي، عبر حالة من التوسع إلى مختلف الاقاليم، وعلى رأسها تلك التي عانت جراء سنوات التهميش، ناهيك عن الاهتمام بمشاركة كافة الفئات وعلى رأسها المرأة والشباب، بالإضافة إلى تعزيز فرص الإبداع لدى كافة قطاعات المجتمع عبر الاستثمار في الأفكار التي من شأنها تقديم حلول حقيقية للأزمات التي تعانيها الدولة في صورتها الجمعية، عبر خدمة الأهداف التنموية المركزية، أو خدمة المجتمع الضيق في المحافظة أو المدينة محل المشروع.
وهنا يمكننا القول بأن عبقرية الرؤية المصرية تتجسد في قدرتها على الخروج بالمفاهيم والمبادىء التي تتبناها، من نطاق التطبيق الضيق، إلى خدمة أهداف واستراتيجيات الدولة، والتي ترتبط بتحقيق التنمية في صورتها المستدامة، وفي القلب منها مبدأ "المواطنة"، والذي اقتصر في العديد من الأحيان على المساواة، وحقوق فئات محددة، بعيدا عن تعزيز الدور الذي ينبغي أن يقوم به المواطن لخدمة وطنه، ودوره في رفعتها والمساعدة في الخروج بها منا قد يحل عليها من أزمات