تقف منظومة التعليم فى مصر على أطراف أصابعها، لديها طموح فى أن تُحلّق عاليا، ويشدّها جسد ثقيل ومُتخم بالأعباء إلى الأرض.
استهلكنا كل الكلام المُمكن عن محدودية الموارد، وشراهة الطلب، وعن أثر الانفلات السكانى غير المحسوب على كل الخدمات وأبواب الإنفاق العام، وليس التعليم فقط، ربما لم يعد أحد مختلفا على أن الوصول إلى الصيغة المثالية يمر عبر دفاتر المواليد؛ لكن نظلّ مُطالبين بتحصيل أفضل الصيغ المُمكنة وفق الالتزامات القائمة والموارد المتاحة، وإذا كنا نواجه عبئا ماليّا تزداد كُلفته بخطوط إنتاج، لا تتوقف عن ضخ مئات الآلاف إلى مقاعد الدراسة سنويّا؛ فليس أقل من جرد الأوراق والسياسات، ومراجعة الخطط وبرامج العمل، ومحاولة التماس التوازن الذى يبدو مستحيلا بين الممكن والمأمول، ربما من تلك الحاجة الماسّة والعاجلة، جاء اقتراح إنشاء مجلس أعلى للتعليم والتدريب.
بالعنوان العريض، يقع نحو 30 مليونا فى التعليم الجامعى وقبل الجامعى ضمن نطاق عمل المجلس، فضلا عن 18 مليون أُمّى بحسب إحصاءات 2017، وأغلب قوة العمل والمُلتحقين الجُدد بالسوق دوريّا من زاوية التدريب، بإيجاز، ليس أقل من نصف المصريين معنيّين مباشرة بالمشروع الجديد، والبقية من زوايا غير مُباشرة، ويمكن أن يكون خطوة واسعة على طريق ضبط اختلالات موروثة وناشئة، وتوظيف الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل؛ لخدمة رؤية وطنية عصرية ناضجة، ما كان ينقصنا لعقود طويلة أن نملك فلسفة تعليمية تنبع من الاحتياجات الحقيقية وتستجيب للتغيّرات المحيطة، للأسف؛ ضاع ذلك مع فورة الإتاحة بمعزل عن وضع سوق العمل منذ الستينيات وما بعدها، ومع سطوة العُرف الاجتماعى لصالح التعليم الجامعى على حساب الفنى والمهنى. الواجب الآن أن ننجز عددا من الاستحقاقات المهمة: تحرير التعليم من أوهام أولياء الأمور، وربط ماكينة التنشئة بخطط التنمية، وإعادة التهيئة الثقافية إلى أن التعليم يُكسب درجة اجتماعية بقدر فرصه وقيمته المُضافة، لا بفخامة برواز الشهادة.
يسدّ مشروع القانون ثغرة قائمة؛ إذ مع اتّساع سوق التعليم أفقيّا ورأسيّا؛ بتضخُّم الأعداد والمؤسَّسات ونوعيات الدراسة، ومع خبرات مُتكررة لتغيُّر السياسات بتغيير الوزراء، أصبح الوضع يقتضى إيجاد عقل حاكم للمنظومة، يمتاز بهيكلٍ يراعى تلك الجغرافيا الفسيحة، وتتوافر له آليات الاستدامة والعبور الناجز لعقبات دولاب العمل اليومى وتبدّلات القائمين على التنفيذ. من تلك الزاوية، يكون المجلس الجديد «بيت خبرة» بالمعنى المنهجى، وسلطة عُليا بالترتيب والأثر، وهو يلعب دور الجسر بين مُستهدفات الدولة وتعقيدات الواقع؛ لكنه سلطة تخطيط وإلزام ورقابة، لا جهة تنسيق وتقريب لوجهات النظر، وانطلاقا من الدور الذى يُراد له الاطلاع به؛ تتعيّن تغذيته بالإمكانيات القادرة على إنفاذ رؤاه، ومتابعة إجرائها واقعيّا، وتقييم الأداء ومُساءلة القائمين عليه أيضا؛ حتى يتحقّق الغرض وتكتمل الفاعلية.
المجلس يتبع رئيس الجمهورية؛ لكن يتولّاه رئيس الوزراء، وفق التعريف والفلسفة المقصودة، يُطل سؤال مهم: هل يمكن أن يكون فعّالا حال دخوله دولاب العمل الحكومى؟ أم يجب أن يقفز للأعلى؟ هنا يمكن أن تتوزّع الآراء بين: مَن يرى إمكانية أن يستقيم الحال رغم وقوف المجلس على خط مُستقيم مع وزارتىّ التعليم والتعليم العالى تحت ولاية رأس واحدة، ومن ينحاز إلى أن يتبع مُؤسَّسة الرئاسة عمليّا لا بنيويّا فقط؛ ليعلو درجة على جهة الإدارة الموكلة بالتنفيذ، صحيح أن رئيس الوزراء فرع أصيل من السلطة التنفيذية، يتبع رئيس الدولة ويلتزم برنامجه وسياساته؛ إلا أن التراتبية داخل الدولاب الإدارى قد تُؤثّر على عمل المجلس بتساويه مع الوزارات المعنيّة فى الموقع والرأس المباشرة، بينما يُتيح الارتقاء خارج التبعية الإجرائية للصيغة الحكومية فرصة أفضل للحركة والإنجاز وتحقيق السلطة المعنوية، ومساحة فاصلة بين العقل والجسد، وقدرة أمضى فى تركيز الأفكار والسياسات وبرامج المتابعة والتقييم، الرأى الأخير يستند إلى فاعلية التواصل المباشر مع مُؤسَّسة الرئاسة، وما يتفرّع عنه من إحساس بالالتزام وجدية فى المحاسبة، وألا يكون الرقيب والمُنفّذ زميلى طاولة واحدة؛ حتى لا تضيع الغاية فى سراديب البيروقراطية التنفيذية.
أيّا كانت الصيغة الأخيرة؛ سيُحدث المجلس أثرا مضمونا بالنظر إلى أنه يملأ مساحة شاغرة، ويسد احتياجا حقيقيّا لتربيط مفاصل منظومة التعليم والتدريب، ووصل الشرايين ببعضها، يتعزّز الشعور المتفائل بالنظر إلى الجدية البادية فى التعاطى مع الفكرة؛ إذ جاءت من الحكومة بالأساس، والمبادرة تعنى أن هناك رغبة حقيقية فى ابتكار صيغة عمل أكثر فاعلية، وترميم جوانب القصور أو دفع الأوضاع إلى التحسُّن بوتيرة أسرع، كما أن توجيه الرئيس بعرض المشروع على الحوار الوطنى إشارة أقوى لاهتمام الدولة بالخطوة، وتعبير عن إرادة صادقة لأن يكون المجلس الجديد رافعة للمنظومة، لا مُجرّد ترس يُجاور بقية التروس، الفاعلية المنتظرة تبدأ من حالة الشراكة؛ فإذا كانت الرسالة أن الجميع يعملون معا لإنضاج الرؤية الأمثل، بالشكل الذى يُلبّى كل الآمال، بتناغمٍ ومن دون تهاون أو إرباك؛ فإن انعكاسها مُستقبلا سيكون دعامة المجلس فى العمل من أجل تلك الرؤية، والوفاء باشتراطات التوافق العام على منظومة سليمة، وديناميكية، وقادرة على التكيُّف مع المتطلّبات والصمود أمام التحديات.
يعلم الرئيس - والحكومة بطبيعة الحال - أن الحوار الوطنى أقرب إلى الهيئة الاستشارية، وليس سلطة تشريع أو تنفيذ، من البديهى القول إن ما يتفق عليه المتحاورون سيأخذ طريقه إلى مجلس الوزراء؛ لإعادة صياغة مشروع القانون، وسواء تغيّر فيه كثير أو قليل، فليس شرطا أن يمر بنسخته الأخيرة، إذ يأتى دور مجلس النواب المفتوح على كل الخيارات: إمّا يقبله كاملا، أو يُمرّره بتعديلات، أو حتى يرفضه ويُعيده للسلطة التنفيذية، هذا التصوُّر يخص الوجه التشريعى والعلاقة بين السلطات؛ لكن الضامن هنا يردّنا إلى مسألة الشراكة، فكرة المجلس جاءت بمبادرة حكومية غرضها تحسين الأوضاع، والعرض على الحوار مبعثه إنزال الاقتراح إلى أرض الواقع وتفاعلاته، وأطروحات المشاركين كان هدفها التجويد وضبط الرؤية والصياغة، وبطبيعة الحال لا ينفصل نواب البرلمان عن تلك الحالة، وكثيرون منهم يساهمون فى لجان الحوار الوطنى ومحاوره؛ ومن ثم فمع الإقرار بأن الحوار ليس سلطة، ولا يُقوّض صلاحيات المؤسَّسات الدستورية، فإن التوافق قبله وبعده، يضمن أن نصل إلى قبة البرلمان بأعلى قدر من القبول العام، وأقل حصة من الاختلافات. هكذا يمكن أن يمر المشروع على وجه مُرضٍ، ومن هنا يأتى التفاؤل.
نصّ القانون مُوجز فى ثمانى مواد، تنظم التشكيل والاختصاصات ودورية الاجتماع ونظام التقارير، يُشير فى الهيكل إلى 18 جهة رسمية بينها 12 وزيرا، مقابل 8 خبراء، وأمانة فنية نِصفُها من المُتفرّغين، ويُعدّد 12 صلاحية، ومسارين للمُخرجات: تقرير ربع سنوى لرئيس الجمهورية، وآخر كل عامين للحكومة ومجلس النواب، وأخيرا يُشير لولاية الجهات المعنية على تنفيذ التوصيات. فى البناء يزيد تمثيل السلطة التنفيذية على التكنوقراط، ما يُرجّح مُعادلة تصويتية لصالح الحكومة إن اختلف موقفها مع الرأى الفنى، فضلا عن سقوط وزارتى «الثقافة، والشباب» من القائمة؛ رغم اتصالهما الحيوى بمنظومة التنشئة والتأهيل بمفهومها الشامل، وغياب هيئة محو الأمية ونشاطها عن المشروع نصّا وتوجيها، قد يُفيد النظر إلى العضوية بقدر من الترشيد ورفع نسبة الخبراء، وأن تكون الأمانة بكاملها من المُتفرّغين، مع بحث تغيير مُسمّيات ثمانية مجالس عُليا للتعليم الجامعى وقبل الجامعى والأزهرى؛ تجنّبا للتضارب وصدام المراكز المعنوية، كأن تكون اتحادات أو هيئات أو روابط مثلا، وأن تتحول علاقتها باقتراحات المجلس الجديد من معنى الولاية الإجرائية إلى صيغة الإلزام، وتكون التقارير للحكومة والبرلمان سنوية أو نصف سنوية، إلى جانب النص فى الصلاحيات على سلطة الرقابة والتقييم، والحقّ فى اقتراح وصياغة مشروعات القوانين وتعديلاتها، أو المشاركة الأصيلة فيها. هذا تصوّر يُمكن أن تُقابله تصوّرات أخرى، مُتصالحة فى جزء أو كُلٍّ وربما مُضادّة تماما؛ لكن على قاعدة أننا إزاء خطوة ضرورية ومفيدة فى كل الأحوال، وعلى أى هيئة يُتَّفق عليها لن نعدم ما تُبشّر به من منفعة.
قد تبدو الصورة ورديّة فى النظريات؛ لكن النزول إلى أرض الواقع يفرض شروطه دائما، يمكن أن تعتمد أفضل البرامج المُطبّقة عالميّا ولا تُحقّق مردودا مُقنعا بسبب طبيعة البيئة وعُمق تحدياتها. التعليم ميدان مفتوح للتجارب الدائمة، وغاية المراد أن تنضبط كل تجربة وفق أفضل الرؤى والمعايير المُستقرّة فى زمنها، ولا يكون الأمر تكرارا لاختراع العجلة، هكذا لا يكون مطلوبا الإجماع على فكرة أو برنامج عمل؛ إنما التوافق بما يعنيه من جَبر الاختلافات إلى أقرب نقطة تقاطع مُقنعة لكل الأطراف، رغم الأهمية والاتفاق على حيوية الملف؛ إلا أنه ليس من النزاعات الحدّية بين تيارات السياسة والاجتماع، على الأقل من ناحية أنه لا خصومة عميقة فيه كما فى الأيديولوجيا، وبهذا يصلح لأن يكون ميدان اختبارٍ لقُدرة القوى السياسية والمنظّمات المدنية والخبراء ومُؤسَّسات الدولة على الالتقاء، ودفع الملفات إلى الأمام بقوة التفاعل الحى، والأداء العضوى الذى يتموضع داخل المعادلة، ولا يحاول تحفيزها من خارجها. هذه النوعية من العناوين تدريب لياقةٍ مهم للجميع، قد تنعكس منافعه لاحقا فى مقاربة القضايا الساخنة.
حصيلة نقاشات الحوار الوطنى لمشروع القانون كانت الأهدأ صوتا، وربما بين الأكثر ثراء من الجلسات بالأفكار والمقترحات. للواقع تحدياته التى قد تفرض شروطها على الصيغة النهائية؛ لكن على الأقل سيأخذ بعضا من الرؤى المطروحة طريقه إلى الإقرار. يتّفق الجميع على أولوية التعليم، وعلى أن الانفتاح وتعدُّد الصيغ لا ينفيان الحاجة إلى استراتيجية جامعة، وعقل مُؤسَّسى يُنظّم السوق الفسيحة، ويضمن قدرا من المشتركات بين الدارسين على تنوّع دراساتهم، نحتاج منظومة تُتيح للمصريين أن يعرفوا أنفسهم جيدا، ويُحيطوا علما بشركائهم من بقيّة الفئات، ويتطلّب ذلك تصوّرا جامعا يُترجم الهويّة الوطنية عمليّا فى المناهج، لا فارق بين الحكومى والخاص والأجنبى منها، وأن نكون قادرين على مُسايرة سوق العمل بالداخل والخارج، بألا نغفل عن حاجتنا لموارد بشرية عالية التأهيل، أو عن فرص ومنافع تصدير الكوادر، المجلس الوطنى الأعلى للتعليم والتدريب احتياج راهن، وضرورة تفرضها تحديات الواقع والمستقبل، وفى سبيل إنجاز مهمّته افتُتح مساره بالبحث عن التوافق العريض؛ وتلك غاية يبدو أنها تحكم النظر راهنا إلى كل الملفات، من القيادة السياسية إلى الحكومة وبقيّة المؤسَّسات، وعلى الجميع اغتنامها وعدم تفويت الفرصة.