لم تكن القافلة قد قطعت شوطًا بعيدًا أو تجاوزت حدود سيناء، فى مثل اليوم قبل 2021 سنة، أو 2025 على الأرجح، وفق حساباتٍ تاريخية مُغايرة للميلاد. تأسّست رحلة العائلة المقدسة، التى احتفلنا بذكراها قبل أيام، على أمرٍ سماوىٍّ، عندما تراءى ملاك الرب ليوسف النجار، كما يروى إنجيل متى، طالبًا منه اصطحاب يسوع وأُمّه مريم إلى أرض مصر؛ هربًا من بطش «هيرودس» الساعى إلى إهلاكه. ثبتت الرحلة بنصوص الكتاب المُقدّس؛ لكن تفصيلها يعود إلى البابا ثاؤفيلس، بطريرك الإسكندرية الثالث والعشرين، خلال القرن الرابع الميلادى، على خلفية رؤيا قال إن العذراء قصّت عليه فيها دقائق النزوح الاضطرارى ومحطّاته، ثمّ روايات الآباء والقدِّيسين فى «السنكسار». الخُلاصة أننا إزاء حدث ثابت بالنص والتقليد، وجوهره راسخ فى الوعى المسيحى، وقيمته التاريخية والروحيّة والثقافية تخصُّ مصر، وتتّصل برقعةٍ عريضة من ترابها، ورقاعٍ أعرض من روحها المُتجذّرة فى الزمن.
قبل قرابة ست سنوات، وقف البابا فرنسيس فى بازيليكا القديس بطرس بالفاتيكان، وقد مضت 6 أشهر على زيارته التاريخية للقاهرة، مُعلنًا تدشين أيقونة الرحلة المُقدّسة، بحضور وزير السياحة المصرى آنذاك، وتبع مباركته برسالة طيّبة فى محبّة مصر: «الأرض المُباركة عبر العصور بدم الشهداء والأبرار، التى عاش فيها القديس يوسف والعذراء مريم والطفل يسوع.. أرض التعايش والضيافة والتاريخ والحضارة». بعدها اعتُمد مسار الرحلة ودخلت ضمن برنامج حج الفاتيكان خلال 2018، وتواصل العمل على إنجاز المشروع محليًّا، حتى وصلت المُعدلات إلى 98% حاليًا، بحسب الوزارة، مع افتتاح 10 مواقع والاستعداد لإطلاق البقيّة، وأقربها موقعا درنكة والقوصيّة بأسيوط، والأخير تجسّد فيه ملاك الرب لـ«النجار» مُجدّدًا؛ طالبًا منه العودة بعدما زال الخطر. لعبت مصر دورًا مهمًّا فى تاريخ المسيحية، لكن الرحلة كانت هدية جليلة من العائلة المُقدّسة للمصريين، وجزءًا أصيلاً من نسيج الهوية والإرث الحضارى الذى نستند إليه، ونفخر به، ونتحمّل جميعًا مسؤولية إبرازه وتعظيم منافعه معنويًّا وماديًّا.
بدأ المسار من أرض فلسطين، واتخذ طريقًا مهجورة غير الثلاثة المعروفة وقتها، ومن رفح ثم العريش و«الفرما» وصولاً إلى أسيوط، عبرت العائلة على 25 محطة، بمسارٍ خَطّى يتجاوز 2000 كيلومتر امتدادًا، و3500 كيلو بالذهاب والعودة. أقامت فى مصر نحو سنتين و6 أشهر، خُمسها تقريبًا فى موقع «دير المحرّق» حاليًا. اليوم تتوزّع خريطتها على 8 محافظات وعشرات المزارات والأديرة والكنائس والتفاصيل المُضيئة: مغارات وآبار وأشجار وقطع أثرية، وتراث غير مادى بالغ التنوّع والثراء.. أضعنا عقودًا دون استفادة بتلك القيمة السامية أثرًا وروحًا، وتتحرّك الدولة الآن لتعويض فترات القصور أو البطء؛ ويظلّ المأمول أكبر، والعطايا المُمكنة أجلُّ من إحصائها؛ إذ إلى جانب ما فيها من حُسن توظيف للإمكانات، ورفادة وتعظيمٍ للموارد، وبناء قدرات تنموية مُستدامة؛ فإنها تُرمّم جانبًا من روح المصريين ووحدتهم، وتصدّ حصّة من لهيب الانغلاق والتطرّف وما تركه فينا الأُصوليّون وكارهو الحياة. المشروع على تفرّده وقيمته الحضارية، يُمثّل انتصارًا لروح مصر الرحبة المُبدعة، واستعادة لوجهها الناصع الجميل.
نجحنا قبل شهور فى تسجيل احتفالات رحلة العائلة المُقدّسة ضمن التُراث الثقافى غير المادى، لكن محطّات الرحلة نفسها غير مُسجّلة. حتى اللحظة لدينا 7 مواقع فقط على قائمة التُراث العالمى، فضلاً عن إضافة المتحف المصرى القديم فى التحرير للمرحلة التمهيدية. حصّتنا الحالية لا تتناسب مع وضع مصر الحضارى وثراء تاريخها الطويل، بالنظر إلى تسجيل 48 موقعًا فى إسبانيا، و49 فى فرنسا، و52 فى ألمانيا، و56 فى الصين، و59 فى إيطاليا. نحتاج إلى التحرّك فى مسار تسجيل مزيد من المواقع والمعالم المُمتدة شمالاً وجنوبًا، وقد تكون «رحلة العائلة المقدسة»، أو بعض محطّاتها ذات القيمة التراثية الرفيعة، ضمن العناوين الصالحة للرهان عليها، لا سيّما مع المردود المُتوقَّع لذلك على رواجها، وإنجاح المشروع الوطنى لجعلها وجهةً سياحية عالمية، ذائعة الصيت ومحطّ اهتمام الأسواق المُستهدفة.
ميزة الرحلة أنها ذات طابع روحى وطقسى ومعيشى، ولها نطاق عريض فى الزمن. يُمكن أن يُروَّج فيها لموسم أساسى يتزامن مع انطلاقها مطلع يونيو، فضلاً عن مواسم أخرى تتّصل بطبيعة المحطّات، وارتباطها بالأصوام والموالد ومواقيت الاحتفالات المسيحية المُمتدّة على مدار العام. هكذا قد تُشكّل حالة ديناميكية قابلة للتسويق الدائم، ومع طول المسار ووفرة المقاصد والمزارات؛ فإننا أمام طاقة استيعاب بالغة الضخامة، يصعب أن نصل فيها إلى التشبُّع أو الاختناق بالزائرين، وما نحتاجه بجانب تأهيل نقاطها وبنيتها التحتية، أن نتوسّع فى الخدمات، ونوفّر معروضًا من شرائح الضيافة يُلبّى أنماط الطلب المُحتملة، من الاقتصادى إلى الفاخر. ما أنجزته الدولة حتى الآن جيد، ونحتاج إلى تسريع الوتيرة، وابتكار حلول لخدمة النقاط الواقعة فى أحوزة زراعية أو صحراوية أو ذات طبيعة عُمرانية خاصة، وأن تنفتح الاستعدادات على برامج لتأهيل العاملين والأهالى، والبدء بتنشيط الحركة بالسياحة الداخلية، لتكون ميدان اختبار يخلق طلبًا أوليًّا مُجديًا؛ بما يقود لاحقًا إلى تحفيز الاستثمار المحلى والخارجى فى المشروعات اللوجستية المطلوبة.
القيمة الثقافية لا تقل عن الأثر الاقتصادى. رحلة العائلة المقدسة لها رمزية تاريخية وروحانية مهمّة للغاية، أوّلاً من زاوية أنها الخروج الوحيد للمسيح من أرض فلسطين التاريخية، وثانيًا لأنها ذات بُعدٍ عقائدى راسخٍ فى نفوس المسيحيين على تنوّع كنائسهم، كما أن لها حضورًا فى خارطة الاعتقاد الإسلامى؛ انطلاقًا من قيمة المسيح لدى المسلمين، ومن انعكاس دلالتها على مركزية الفكرة الوطنية لدى المصريين جميعًا. يُضاف لكل ذلك إمكانية انفتاحها على محاور أخرى لا تنفصل عن الإيمان المسيحى، وإن وقعت خارج المسار المعروف، لتشمل: منطقة كاترين وديرها الأثرى، وجبلى التجلّى والمناجاة وعيون موسى، ومجمّع الأديان وقائمة من المعابد اليهودية، والمقابر والمزارات ذات الطبيعة التاريخية المُتّصلة روحيًّا بالكتاب المُقدّس. هذا المسار يُمكن أن يفتح بابًا مُجاورًا للسياحة الإسلامية، مُستغلاًّ مُدوّنة ثريّة من مئات المساجد والأضرحة ومراقد آل البيت والصحابة والتابعين والأئمة البارزين وأقطاب الصوفية، تتوزّع على امتداد مصر، وتُغطّى كل الحقب التاريخية ومدارات الفكر والاعتقاد لدى كل المذاهب. هكذا يمكن أن تتحوّل «أم الدنيا» إلى قبلة روحية لقرابة 5 مليارات إنسان، وأن تُرسّخ صورتها الدائمة حيّزًا فسيحًا للتسامح والانفتاح وقبول الآخر.
هناك أُفقٌ طموح آخر، يُمكن أن يمتد فى المستقبل ومع نمو التجربة، بالربط الإقليمى مع خط نهر الأردن ومغطس «بيت عنيا» وكنائس يوحنا وكهفى عراق الأمير وبيت إيدس وغيرها بالمملكة الأردنية، والقدس والناصرة وبيت لحم وبقيّة المزارات التاريخية فى فلسطين. يسمح الامتداد بتوطيد الشراكة العربية وإرساء محور تنموى يستند للثقافة، فضلاً عن اجتذاب حصّة من تدفُّقات الحج المسيحى السنوية للأراضى المُقدّسة، جذبًا أصيلاً أو امتدادًا لجولة موسميّة موسّعة، وإسناد القضية الفلسطينية عبر تعزيز هويّتها الثرية، وكسر طوق التهويد الخانق من خلال تغذية واستثمار رواية بديلة، لا ينقصها العمق التاريخى ولا البُعد العقائدى الراسخ لدى جموع المسيحيين بالعالم. هذا التصوّر لا ينفصل عن إسهام مصر الدائم فى دعم الفلسطينيين وقضيّتهم؛ لكنه يُطوّر الآليات بإدخال الثقافة إلى عُمق المعادلة، مع ما ينعكس من ورائه على وَصل القنوات ولَجم الحصار، وسواء تحقَّق أو تأخّر؛ فإن نمو حركة «الحج المسيحى» إلى مصر بالأصالة؛ سيظل مُفيدًا للسرديّة العربية، وإن بشكل غير مباشر.
لا نتحدّث عن مُجرّد سَفرةٍ تاريخية معروفة الخطّ والتفاصيل، ولا عن واحدٍ من أطول المسارات الارتحالية فى العالم فقط؛ إنما عن ميزة روحانية لا تتوفّر لأية بقعة أخرى. المسيح الذى يخص نحو 2.5 مليار مسيحى بالمباشر، وله منزلة معنوية لا تقل عن ذلك فى نفوس مليارى مُسلم، شقّ طريقًا لأول رحلة جغرافية يتجاور فيها السياحى مع العقائدى. بين التنقّل والمُعايشة واختبار الطقوس والعادات وأنماط الحياة، والهرب استجابةً لتوجيه إلهى مع تحقُّق فكرة الاضطهاد الأصيلة فى الفكر المسيحى، تبرز مكوّنات القيمة المعنوية المُحفّزة للسير على الدرب نفسه الآن ومُستقبلاً. الإغراء المُتحقّق فى الرحلة كافٍ لاجتذاب كل الفئات: المؤمنين أصلاً بالمسيح، والموقّرين له التزامًا دينيًا أو إنسانيًّا، والباحثين عن المعرفة ومُقاربة الثقافات وتحوّلاتها. من هنا يُمكن تسويق الرحلة بكاملها، أو بعض محطّاتها، أو طقوسها الاحتفالية ومفرداتها، من حرفٍ وأطعمة وفنون وعادات؛ لنصبح أمام مقاصد عديدة لا وجهة واحدة، صحيح أنها تُقاد بالعقيدة فى الأساس؛ لكن وراء القاطرة عربات مُتلاصقة للثقافة والترفيه والاستشفاء والطعام والتراث والمُغامرة وكل صنوف وأغراض السفر.
كمال الرؤية فى ألّا نُغلق قوس الرحلة. كانت العائلة تهرب بحياتها إلى مصر، وعلينا أن نستنسخ الفلسفة نفسها لنُقدّم حياةً كاملة للزوّار. كما كان الأمر بمثابة ولادة جديدة بإفلات المسيح ممّن أرادوا إفناءه، يُمكن أن تكون التجربة ولادةً لكل ضيف أيضًا. هنا سيقتفى أثر الرحلة المُباركة، ويعيش روحانيّاتها، ويُمارس طقوسها، ويخوض جولة مُختلفة ومُشبعة من جولات الحياة. يحتاج ذلك إلى فتح الخريطة على بقيّة المعروض السياحى، وربط المسار بالحالة المصرية عضويًّا، ولحُسن الحظ فمن أى نقطة فيه يُمكن أن تخلق مُنتجًا أكثر ثراءً: إلى الشواطئ ومناطق الاسترخاء فى سيناء والبحر الأحمر، أو إلى سيوة ورحلات السفارى والمغامرة والاستشفاء، أو إلى المواقع الثقافية والتراثية بالقلب والجنوب. يتطلّب ذلك تربيط مفاصل الرحلة مع النطاقات المُحيطة، وإتاحة منظومة انتقال تضمن سهولة الوصول برًّا وبحرًا وجوًّا.. أغلب المسار يقع فى ساحات بِكرٍ وغير مطروقة للسائحين، ونحن أمام فرصة لخلق نقاط ارتكازٍ جديدة، قادرة على الجذب ومُغذّية لبقيّة السوق، وإحداث طفرة عمرانية وتنموية فى مناطق لم تكن على خريطة السياحة من قبل.
عندما وقف بابا الفاتيكان مُباركًا الأيقونة؛ كان فى الواقع يُوجّه نحو 1.4 مليار كاثوليكى لأن تكون مصر ضمن مُخطّط حجّهم المُستقبلى. نتحدّث عن أكثر من نصف مسيحيى العالم وقرابة 18 % من البشر، والأغلبية فى 67 دولة بعضها أسواق جديدة ونوعيّات لم تصلهم رسائلنا. إذا انطلقنا من تلك القاعدة؛ فإن بإمكاننا مُضاعفة الحيّز المُستهدف من المسيحيين، والمسلمين أيضًا، وتلك فرصة تاريخية؛ لأنها توسّع لنا مجال عمل على نمطٍ لم نختبره سابقًا، رغم أن لدينا مُؤهّلات لا نهائية للمنافسة فيه، والأهم أن السياحة الدينية أكثر استدامةً وأقل عرضة للصدمات، وانطلاقًا من قوّتها الروحية فإنها لا تتوقف غالبًا؛ حتى مع توترات السياسة أو ضغوط الاقتصاد. أهدتنا «العائلة المُقدّسة» قبسًا عظيمًا من النور والتاريخ والمحبّة والتسامح، وجزءًا أصيلاً من إرثنا وفُسيفسائية الحضارة والاعتقاد والتعايش المصرية، وعلينا أن نردّ الجميل، وألا نُفرّط فى الهدية السامية.